الأربعاء، 30 مارس 2011

وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (الأعراف من 163 إلى 166، تفسير ابن كثير، مجلد 2، صفحة 257،256)

 

هذا السياق هو بسط لقوله تعالى (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) (البقرة 65) يقول الله تعالى، لنبيه صلوات الله وسلامه عليه ( وَاسْأَلْهُمْ ) أي واسأل هؤلاء اليهود الذين بحضرتك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله، ففاجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة، وحذر هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهم؛ لئلا يحل بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم. وهذه القرية هي "أيلة" وهي على شاطئ بحر القلزم.

قال محمد بن إسحاق عن داود بن الحُصَين، عن عكرمة عن ابن عباس في قوله ( وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ ) قال هي قرية يقال لها "أيلة" بين مدين والطور. وكذا قال عكرمة، ومجاهد، وقتادة، والسُّدِّي. وقال عبد الله بن كثير القارئ، سمعنا أنها أيلة. وقيل هي مدين، وهو رواية عن ابن عباس وقال ابن زيد هي قرية يقال لها. "مقنا" بين مدين وعَيدُوني.

وقوله ( إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ ) أي يعتدون فيه ويخالفون أمر الله فيه لهم بالوصاة به إذ ذاك. ( إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا ) قال الضحاك، عن ابن عباس أي ظاهرة على الماء.

وقال العوفي، عن ابن عباس ( شُرَّعًا ) من كل مكان.

قال ابن جرير وقوله ( وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ ) أي نختبرهم بإظهار السمك لهم على ظهر الماء في اليوم المحرم عليهم صيده، وإخفائه عنهم في اليوم المحلل لهم صيده ( كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ ) نختبرهم ( بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) يقول بفسقهم عن طاعة الله وخروجهم عنها.

وهؤلاء قوم احتالوا على انتهاك محارم الله، بما تعاطوا من الأسباب الظاهرة التي معناها في الباطن تعاطي الحرام.

وقد قال الفقيه الإمام أبو عبد الله بن بطة، رحمه الله حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم، حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل"، وهذا إسناد جيد، فإن أحمد بن محمد بن مسلم هذا ذكره الخطيب في تاريخه ووثقه، وباقي رجاله مشهورون ثقات، ويصحح الترمذي بمثل هذا الإسناد كثيرًا.

يخبر تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق فرقة ارتكبت المحذور، واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت، وفرقة نهت عن ذلك وأنكرت واعتزلتهم. وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه، ولكنها قالت للمنكرة ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ) ؟ أي لم تنهون هؤلاء، وقد علمتم أنهم هلكوا واستحقوا العقوبة من الله؟ فلا فائدة في نهيكم إياهم. قالت لهم المنكرة ( مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ ) قرأ بعضهم بالرفع، كأنه على تقديره هذا معذرة وقرأ آخرون بالنصب، أي نفعل ذلك ( مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ ) أي فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) يقولون ولعل بهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه، ويرجعون إلى الله تائبين، فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم.

قال تعالى ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ) أي فلما أبى الفاعلون المنكر قبول النصيحة، ( أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا ) أي ارتكبوا المعصية ( بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ) فنص على نجاة الناهين وهلاك الظالمين، وسكت عن الساكتين؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فهم لا يستحقون مدحا فيمدحوا، ولا ارتكبوا عظيما فيذموا، ومع هذا فقد اختلف الأئمة فيهم هل كانوا من الهالكين أو من الناجين؟ على قولين قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ( وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ) قال هي قرية على شاطئ البحر بين مصر والمدينة، يقال لها "أيلة"، فحرم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم، وكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعًا في ساحل البحر، فإذا مضى يوم السبت لم يقدروا عليها. فمضى على ذلك ما شاء الله، ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم، فنهتهم طائفة وقالوا تأخذونها وقد حرمها الله عليكم يوم سبتكم؟ فلم يزدادوا إلا غيًا وعتوًا، وجعلت طائفة أخرى تنهاهم، فلما طال ذلك عليهم قالت طائفة من النهاة تعلمون أن هؤلاء قوم قد حق عليهم العذاب ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ  أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ) وكانوا أشد غضبا لله من الطائفة الأخرى؟ فقالوا ( مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) وكل قد كانوا ينهون ، فلما وقع عليهم غضب الله نجت الطائفتان اللتان قالوا ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ ) والذين قالوا ( مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ ) وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان، فجعلهم قردة. وروى العوفي، عن ابن عباس قريبًا من هذا.

وقال حماد بن زيد، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ) قال ما أدري أنجا الذين قالوا "أتعظون قوما الله مهلكهم"، أم لا ؟ قال فلم أزل به حتى عرَّفته أنهم نجوا، فكساني حلة.

قال عبد الرزاق أخبرنا ابن جُرَيْج، حدثني رجل، عن عكرمة قال جئت ابن عباس يوما وهو يبكي، وإذا المصحف في حجره، فأعظمت أن أدنو، ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست، فقلت ما يبكيك يا أبا عباس، جعلني الله فداك؟ قال فقال هؤلاء الورقات. قال وإذا هو في "سورة الأعراف"، قال تعرف أيلة قلت نعم. قال فإنه كان بها حي من يهود سيقت الحيتان إليهم يوم السبت، ثم غاصت لا يقدرون عليها حتى يغوصوا بعد كد ومؤنة شديدة، كانت تأتيهم يوم السبت شرعا بيضًا سمانًا كأنها الماخض، تتبطح ظهورها لبطونها بأفنيتهم. فكانوا كذلك برهة من الدهر، ثم إن الشيطان أوحى إليهم فقال إنما نهيتم عن أكلها يوم السبت، فخذوها فيه، وكلوها في غيره من الأيام. فقالت ذلك طائفة منهم، وقالت طائفة بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها يوم السبت. فكانوا كذلك، حتى جاءت الجمعة المقبلة، فغدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها، واعتزلت طائفة ذات اليمين، وتنحت واعتزلت طائفة ذات اليسار وسكتت. وقال الأيمنون ويلكم، الله، الله ننهاكم أن تتعرضوا لعقوبة الله. وقال الأيسرون ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ) ؟ قال الأيمنون ( مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) إن ينتهوا فهو أحب إلينا ألا يصابوا ولا يهلكوا، وإن لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم. فمضوا على الخطيئة، وقال الأيمنون فقد فعلتم، يا أعداء الله. والله لا نبايتكم الليلة في مدينتكم، والله ما نراكم تصبحون حتى يصبحكم الله بخسف أو قذف أو بعض ما عنده من العذاب. فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ونادوا، فلم يجابوا، فوضعوا سلما، وأعلوا سور المدينة رجلا فالتفت إليهم فقال أي عباد الله، قردة والله تعاوي لها أذناب. قال ففتحوا فدخلوا عليهم، فعرفت القرود أنسابها من الإنس، ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة، فجعلت القرود يأتيها نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي، فتقول ألم ننهكم عن كذا؟ فتقول برأسها، أي نعم. ثم قرأ ابن عباس ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ) قال فأرى الذين نهوا قد نجوا، ولا أرى الآخرين ذكروا، ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها؟. قال قلت جعلني الله فداك، ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه، وخالفوهم وقالوا ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ ) ؟ قال فأمر لي فكسيت ثوبين غليظين وكذا روى مجاهد، عنه.

وقال ابن جرير حدثنا يونس، أخبرنا أشهب بن عبد العزيز، عن مالك، قال زعم ابن رومان أن قوله تعالى (تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) قال كانت تأتيهم يوم السبت، فإذا كان المساء ذهبت، فلا يرى منها شيء إلى يوم السبت الآخر، فاتخذ -لذلك - رجل خيطًا ووتدًا، فربط حوتا منها في الماء يوم السبت، حتى إذا أمسوا ليلة الأحد، أخذه فاشتواه، فوجد الناس ريحه، فأتوه فسألوه عن ذلك، فجحدهم، فلم يزالوا به حتى قال لهم "فإنه جلد حوت وجدناه". فلما كان السبت الآخر فعل مثل ذلك -ولا أدري لعله قال ربط حوتين - فلما أمسى من ليلة الأحد أخذه فاشتواه، فوجدوا رائحة، فجاءوا فسألوه فقال لهم لو شئتم صنعتم كما أصنع. فقالوا له وما صنعت؟ فأخبرهم، ففعلوا مثل ما فعل، حتى كثر ذلك. وكانت لهم مدينة لها ربض يغلقونها عليهم، فأصابهم من المسخ ما أصابهم. فغدوا عليهم جيرانهم مما كانوا حولهم، يطلبون منهم ما يطلب الناس، فوجدوا المدينة مغلقة عليهم، فنادوا فلم يجيبوهم، فتسوروا عليهم، فإذا هم قردة، فجعل القرد يدنو يتمسح بمن كان يعرف قبل ذلك، ويدنو منه ويتمسح به.

القول الثاني أن الساكتين كانوا من الهالكين.

قال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أنه قال ابتدعوا السبت فابتلوا فيه، فحرمت عليهم فيه الحيتان، فكانوا إذا كان يوم السبت، شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر. فإذا انقضى السبت، ذهبت فلم تر حتى السبت المقبل، فإذا جاء السبت جاءت شرعا، فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا كذلك، ثم إن رجلا منهم أخذ حوتًا فخزم أنفه ثم، ضرب له وتدًا في الساحل، وربطه وتركه في الماء. فلما كان الغد، أخذه فشواه فأكله، ففعل ذلك وهم ينظرون ولا ينكرون، ولا ينهاه منهم أحد، إلا عصبة منهم نهوه، حتى ظهر ذلك في الأسواق، ففعل علانية. قال  فقالت طائفة للذين ينهونهم ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ ) فقالوا سخط أعمالهم ( وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ) إلى قوله ( قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) قال ابن عباس كانوا أثلاثًا ثلث نهوا، وثلث قالوا ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ ) وثلث أصحاب الخطيئة، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم. وهذا إسناد جيد عن ابن عباس، ولكن رجوعه إلى قول عكرمة في نجاة الساكتين، أولى من القول بهذا؛ لأنه تبين حالهم بعد ذلك، والله أعلم.

وقوله تعالى ( وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ) فيه دلالة بالمفهوم على أن الذين بقوا نجوا. و ( بَئِيسٍ ) فيه قراءات كثيرة، ومعناه في قول مجاهد "الشديد"، وفي رواية "أليم". وقال قتادة موجع. والكل متقارب، والله أعلم. وقوله ( خاسئين ) أي ذليلين حقيرين مهانين.
اقرأ المزيد >>

الاثنين، 28 مارس 2011

وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (آل عمران 178، تفسير السعدي، مجلد 1، صفحة 897)

 

أي ولا يظن الذين كفروا بربهم ونابذوا دينه، وحاربوا رسوله أن تركنا إياهم في هذه الدنيا، وعدم استئصالنا لهم، وإملاءنا لهم خير لأنفسهم، ومحبة منا لهم.

كلا ليس الأمر كما زعموا، وإنما ذلك لشر يريده الله بهم، وزيادة عذاب وعقوبة إلى عذابهم، ولهذا قال ( إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ) فالله تعالى يملي للظالم، حتى يزداد طغيانه، ويترادف كفرانه، حتى إذا أخذه أخذه أخذ عزيز مقتدر، فليحذر الظالمون من الإمهال، ولا يظنوا أن يفوتوا الكبير المتعال.
اقرأ المزيد >>

السبت، 26 مارس 2011

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (البقرة 209،208، تفسير السعدي، المجلد 1، صفحة 405)

 

هذا أمر من الله تعالى للمؤمنين أن يدخلوا ( فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) أي في جميع شرائع الدين، ولا يتركوا منها شيئا، وأن لا يكونوا ممن اتخذ إلهه هواه، إن وافق الأمر المشروع هواه فعله، وإن خالفه تركه، بل الواجب أن يكون الهوى تبعا للدين، وأن يفعل كل ما يقدر عليه من أفعال الخير، وما يعجز عنه يلتزمه وينويه فيدركه بنيته.

ولما كان الدخول في السلم كافة، لا يمكن ولا يتصور إلا بمخالفة طرق الشيطان قال ( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) أي في العمل بمعاصي الله ( إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) والعدو المبين، لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء، وما به الضرر عليكم.

ولما كان العبد لا بد أن يقع منه خلل وزلل، قال تعالى (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ) أي على علم ويقين (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ).

وفيه من الوعيد الشديد، والتخويف، ما يوجب ترك الزلل، فإن العزيز القاهر الحكيم، إذا عصاه العاصي، قهره بقوته، وعذبه بمقتضى حكمته فإن من حكمته، تعذيب العصاة والجناة.
اقرأ المزيد >>

الخميس، 24 مارس 2011

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (البقرة من 204 إلى 207، تفسير ابن كثير، مجلد 4، صفحة 407)



قال السدي نـزلت في الأخنس بن شَرِيق الثقفي، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأظهر الإسلام وفي باطنه خلاف ذلك. وعن ابن عباس أنها نـزلت في نفر من المنافقين تكلموا في خُبَيب وأصحابه الذين قتلوا بالرّجيع وعابُوهم، فأنـزل الله في ذم المنافقين ومدح خُبَيب وأصحابه ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ )، وقيل بل ذلك عام في المنافقين كلهم وفي المؤمنين كلهم. وهذا قول قتادة، ومجاهد، والرّبيع بن أنس، وغير واحد، وهو الصحيح.

وقال ابن جرير حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن القرظي، عن نَوْف - وهو البكالي، وكان ممن يقرأ الكتب - قال إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنـزل قَوم يحتالون على الدنيا بالدين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمَرّ من الصّبرِ، يلبسون للناس مُسوك الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب. يقول الله تعالى  فعليّ يجترئون! وبي يغتَرون! حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها حيران. قال القرظي تدبرتها في القرآن، فإذا هم المنافقون، فوجدتها ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ) الآية.

وحدثني محمد بن أبي معشر، أخبرني أبي أبو معشر نَجِيح قال سمعت سعيدًا المقبري يذاكر محمد بن كعب القرظي، فقال سعيد إن في بعض الكتب إنّ لله عبادًا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمَرّ من الصّبر، لبسوا للناس مُسُوك الضأن من اللين، يَجْترّون الدنيا بالدين. قال الله تعالى عليّ تجترئون! وبي تغترون!. وعزتي لأبعثنّ عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران. فقال محمد بن كعب هذا في كتاب الله. فقال سعيد وأين هو من كتاب الله؟ قال قول الله ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) الآية. فقال سعيد قد عرفتُ فيمن أنـزلت هذه الآية. فقال محمد بن كعب إن الآية تنـزل في الرجل، ثم تكون عامة بعد. وهذا الذي قاله القرظي حسن صحيح.

وأما قوله ( وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ) فقرأه ابن محيصن ( ويَشْهَدُ اللهُ ) بفتح الياء، وضم لفظ الجلالة ( عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ) ومعناها أن هذا وإن أظهر لكم الحيل لكن الله يعلم من قلبه القبيح، كقوله تعالى (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) (المنافقون 1).

وقراءة الجمهور بضم الياء، ونصب لفظ الجلالة ( وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ) ومعناه أنه يُظْهرُ للناس الإسلام ويبارزُ الله بما في قلبه من الكفر والنفاق، كقوله تعالى (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ) (النساء 108) هذا معنى ما رواه ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

وقيل معناه أنه إذا أظهر للناس الإسلام حَلَف وأشهد الله لهم أن الذي في قلبه موافق للسانه. وهذا المعنى صحيح، وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جرير، وعزاه إلى ابن عباس، وحكاه عن مجاهد، والله أعلم.

وقوله ( وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ) الألد في اللغة هو الأعوج، (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا) (مريم97) أي عُوجًا. وهكذا المنافق في حال خصومته، يكذب، ويَزْوَرّ عن الحق ولا يستقيم معه، بل يفتري ويفجر، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".

وقال البخاري حدثنا قَبيصةُ، حدثنا سفيان، عن ابن جُرَيج، عن ابن أبي مُلَيْكة، عن عائشة تَرْفَعُه قال "أبغض الرجال إلى الله الألَدُّ الخَصم". قال وقال عبد الله بن يزيد حدثنا سفيان، حدثني ابن جريج، عن ابن أبي مُلَيكة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم".

وهكذا رواه عبد الرزاق، عن مَعْمَر في قوله ( وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ) عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" .

وقوله ( وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) أي هو أعوج المقال، سيّئ الفعَال، فذلك قوله، وهذا فعله كلامه كَذِب، واعتقاده فاسد، وأفعاله قبيحة.

والسعي هاهنا هو القَصْد. كما قال إخبارًا عن فرعون (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى) (النازعات 22-26)، وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) (الجمعة 9) أي اقصدوا واعمدوا ناوين بذلك صلاة الجمعة، فإن السعي الحسي إلى الصلاة منهيّ عنه بالسنة النبوية "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تَسْعَوْن، وأتوها وعليكم السكينةُ والوقار".

فهذا المنافق ليس له همة إلا الفساد في الأرض، وإهلاك الحرث، وهو مَحل نماء الزروع والثمار والنسل، وهو نتاج الحيوانات الذين لا قوَام للناس إلا بهما. وقال مجاهد إذا سُعى في الأرض فسادًا، منع الله القَطْرَ، فهلك الحرث والنسل. ( وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) أي لا يحب من هذه صفَته، ولا من يصدر منه ذلك.

وقوله ( وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ ) أي إذا وُعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله، وقيل له اتق الله، وانـزع عن قولك وفعلك، وارجع إلى الحق، امتنع وأبى، وأخذته الحميَّة والغضب بالإثم، أي بسبب ما اشتمل عليه من الآثام، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الحج 72)، ولهذا قال في هذه الآية ( فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ) أي هي كافيته عقوبة في ذلك.

وقوله ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ) لما أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذميمة، ذَكَر صفات المؤمنين الحميدة، فقال ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ )، قال ابن عباس، وأنس، وسعيد بن المسيب، وأبو عثمان النّهدي، وعكرمة، وجماعة نـزلت في صُهيب بن سنَان الرومي، وذلك أنَّه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة، منعه الناس أن يهاجر بماله، وإنْ أحب أن يتجرّد منه ويهاجر، فَعَل. فتخلص منهم وأعطاهم ماله، فأنـزل الله فيه هذه الآية، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرّة. فقالوا  رَبح البيع. فقال وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم، وما ذاك؟ فأخبروه أنّ الله أنـزل فيه هذه الآية. ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له "ربِح البيع صهيب، ربح البيع صهيب".

قال ابن مَرْدُويه حدثنا محمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن عبد الله بن رُسْتَة، حدثنا سليمان بن داود، حدثنا جعفر بن سليمان الضَبَعي، حدثنا عوف، عن أبي عثمان النهدي، عن صهيب قال لما أردتُ الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش يا صهيبُ، قَدمتَ إلينا ولا مَالَ لك، وتخرج أنت ومالك! والله لا يكون ذلك أبدًا. فقلت لهم أرأيتم إن دَفَعْتُ إليكم مالي تُخَلُّون عني؟ قالوا نعم. فدفعتُ إليهم مالي، فخلَّوا عني، فخرجت حتى قدمتُ المدينة. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال "رَبح صهيبُ، ربح صهيب" مرتين اضغط هنا .

وقال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال أقبل صهيب مهاجرًا نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نَفَر من قريش، فنـزل عَنْ راحلته، وانتثل ما في كنانته. ثم قال يا معشر قريش، قد علمتم أنّي من أرماكم رجلا وأنتم والله لا تصلون إلي حتى أرمي كُلّ سهم في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شَيْء، ثم افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي وقُنْيتي بمكة وخلَّيتم سبيلي؟ قالوا نعم. فلما قَدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال "ربح البيع، ربح البيع". قال ونـزلت ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ )

وأما الأكثرون فحمَلوا ذلك على أنها نـزلت في كل مُجَاهد في سبيل الله، كما قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة 111) . ولما حمل هشام بن عامر بين الصفين، أنكر عليه بعضُ الناس، فردّ عليهم عُمَر بن الخطاب وأبو هريرة وغيرهما، وتلوا هذه الآية ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ )
اقرأ المزيد >>

الثلاثاء، 22 مارس 2011

النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (غافر 46، تفسير ابن كثير، مجلد 6، صفحة 358)

 

وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور. ولكن هاهنا سؤال، وهو أنه لا شك أن هذه الآية مكية، وقد استدلوا بها على عذاب القبر في البرزخ، وقد قال الإمام أحمد حدثنا هاشم -هو ابن القاسم أبو النضر- حدثنا إسحاق بن سعيد -هو ابن عمرو بن سعيد بن العاص- حدثنا سعيد -يعني أباه- عن عائشة؛ أن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة إليها شيئا من المعروف إلا قالت لها اليهودية وقاك الله عذاب القبر. قالت فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ فقلت يا رسول الله، هل للقبر عذاب قبل يوم القيامة؟ قال "لا وعم ذلك؟" قالت هذه اليهودية، لا نصنع إليها شيئا من المعروف إلا قالت وقاك الله عذاب القبر. قال "كذبت يهود. وهم على الله أكذب، لا عذاب دون يوم القيامة". ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث، فخرج ذات يوم نصف النهار مشتملا بثوبه، محمرة عيناه، وهو ينادي بأعلى صوته "القبر كقطع الليل المظلم أيها الناس، لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا وضحكتم قليلا. أيها الناس، استعيذوا بالله من عذاب القبر، فإن عذاب القبر حق" . وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم، ولم يخرجاه.
وروى أحمد حدثنا يزيد، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قال سألتها امرأة يهودية فأعطتها، فقالت لها أعاذك الله من عذاب القبر. فأنكرت عائشة ذلك، فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت له، فقال "لا". قالت عائشة ثم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك "وإنه أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم". وهذا أيضا على شرطهما .

فيقال فما الجمع بين هذا وبين كون الآية مكية، وفيها الدليل على عذاب البرزخ؟ والجواب أن الآية دلت على عرض الأرواح إلى النار غدوا وعشيا في البرزخ، وليس فيها دلالة على اتصال تألمها بأجسادها في القبور، إذ قد يكون ذلك مختصا بالروح، فأما حصول ذلك للجسد وتألمه بسببه، فلم يدل عليه إلا السنة في الأحاديث المرضية الآتي ذكرها.

وقد يقال إن هذه الآية إنما دلت على عذاب الكفار في البرزخ، ولا يلزم من ذلك أن يعذب المؤمن في قبره بذنب، ومما يدل على هذا ما رواه الإمام أحمد حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة من اليهود، وهي تقول أشعرت أنكم تفتنون في قبوركم؟ فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال "إنما يفتن يهود" قالت عائشة فلبثنا ليالي، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أشعرت أنه أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور؟" وقالت عائشة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يستعيذ من عذاب القبر.

وهكذا رواه مسلم، عن هارون بن سعيد وحرملة، كلاهما عن ابن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن الزهري، به .

وقد يقال إن هذه الآية دلت على عذاب الأرواح في البرزخ، ولا يلزم من ذلك أن يتصل بالأجساد في قبورها، فلما أوحي إليه في ذلك بخصوصيّته استعاذ منه، والله، سبحانه وتعالى، أعلم.

وقد روى البخاري من حديث شعبة، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن أبيه، عن مسروق، عن عائشة ، رضي الله عنها، أن يهودية دخلت عليها فقالت أعاذك الله من عذاب القبر . فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر؟ فقال "نعم عذاب القبر حق". قالت عائشة فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدُ صلى صلاة إلا تعوّذ من عذاب القبر. فهذا يدل على أنه بادر إلى تصديق اليهودية في هذا الخبر، وقرر عليه. وفي الأخبار المتقدمة أنه أنكر ذلك حتى جاءه الوحي، فلعلهما قضيتان، والله أعلم، وأحاديث عذاب القبر كثيرة جدا.

وقال قتادة في قوله ( غُدُوًّا وَعَشِيًّا ) صباحا ومساء، ما بقيت الدنيا، يقال لهم يا آل فرعون، هذه منازلكم، توبيخا ونقمة وصَغَارا لهم. وقال ابن زيد هم فيها اليوم يُغدَى بهم ويراح إلى أن تقوم الساعة.

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد، حدثنا المحاربي، حدثنا ليث، عن عبد الرحمن بن ثروان، عن هذيل، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه، قال إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تسرح بهم في الجنة حيث شاءوا، وإن أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير تسرح في الجنة حيث شاءت، فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، وإن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح عليها، فذلك عرضها.

وقد رواه الثوري عن أبي قيس عن الهُزَيل ابن شرحبيل، من كلامه في أرواح آل فرعون. وكذلك قال السدي.

وفي حديث الإسراء من رواية أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه "ثم انطلق بي إلى خلق كثير من خلق الله، رجالٌ كلُّ رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم، مصفدون على سابلة آل فرعون، وآل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا. ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) وآل فرعون كالإبل المسومة يخبطون الحجارة والشجر ولا يعقلون".

وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين، حدثنا زيد بن أخْرَم، حدثنا عامر بن مُدْرِك الحارثي، حدثنا عتبة -يعني ابن يقظان- عن قيس بن مسلم، عن طارق، عن شهاب، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما أحسن محسن من مسلم أو كافر إلا أثابه الله". قال قلنا يا رسول الله ما إثابة الكافر؟ فقال "إن كان قد وصل رحما أو تصدق بصدقة أو عمل حسنة، أثابه الله المال والولد والصحة وأشباه ذلك". قلنا فما إثابته في الآخرة؟ قال "عذابا دون العذاب" وقرأ ( أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) ورواه البزار في مسنده، عن زيد بن أخْرَم، ثم قال لا نعلم له إسنادًا غير هذا.

وقال ابن جرير حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير، حدثنا حماد بن محمد الفزاري البلخي قال سمعت الأوزاعي وسأله رجل فقال رحمك الله. رأينا طيورًا تخرج من البحر، تأخذ ناحية الغرب بيضا، فوجا فوجا، لا يعلم عددها إلا الله، عز وجل، فإذا كان العشي رجع مثلها سودا. قال وفطنتم إلى ذلك؟ قال نعم. قال إن تلك الطير في حواصلها أرواح آل فرعون، تعرض على النار غدوا وعشيا، فترجع إلى وكورها وقد احترقت ريَاشُها وصارت سودا، فينبت عليها من الليل ريش أبيض، ويتناثر السود، ثم تغدو على النار غدوا وعشيا، ثم ترجع إلى وكورها. فذلك دأبهم في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى ( أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) قال وكانوا يقولون إنهم ستمائة ألف مقاتل .

وقال الإمام أحمد حدثنا إسحاق، أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار. فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله، عز وجل، إلى يوم القيامة". أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك.
اقرأ المزيد >>

الأحد، 20 مارس 2011

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ * مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (البقرة 105،104، تفسير ابن كثير، مجلد 2، صفحة 128)

 

نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يُعَانُون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص -عليهم لعائن الله- فإذا أرادوا أن يقولوا اسمع لنا يقولون راعنا. يورون بالرعونة، كما قال تعالى (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا) (النساء 46) وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم، بأنهم كانوا إذا سَلَّموا إنما يقولون السامُ عليكم. والسام هو الموت. ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بـ "وعليكم". وإنه يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا.

والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا. فقال ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ )

وقال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت، حدثنا حسان بن عطية، عن أبي مُنيب الجُرَشي، عن ابن عمر، رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بعثت بين يدي الساعة بالسيف، حتى يُعبد الله وحده لا شريك له. وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصَّغارُ على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم".

وروى أبو داود، عن عثمان بن أبي شيبة، عن أبي النضر هاشم بن القاسم به "من تشبه بقوم فهو منهم"، ففيه دلالة على النهي الشديد والتهديد والوعيد، على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم، ولباسهم وأعيادهم، وعبادتهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نُقَرر عليها.

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا مِسْعَر، عن مَعْن وعَوْن -أو أحدهما- أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود، فقال اعهد إلي. فقال إذا سمعت الله يقول ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) فأرعها سَمْعك، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه .

وقال الأعمش، عن خيثمة، قال ما تقرؤون في القرآن ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) فإنه في التوراة "يا أيها المساكين". وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس ( راعنا ) أي أرعنا سمعك. وقال الضحاك، عن ابن عباس ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا ) قال كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم أرعنا سمعك. وإنما ( راعنا ) كقولك عاطنا. وقال ابن أبي حاتم وروي عن أبي العالية، وأبي مالك، والربيع بن أنس، وعطية العوفي، وقتادة، نحو ذلك. وقال مجاهد ( لا تَقُولُوا رَاعِنَا ) لا تقولوا خلافا. وفي رواية لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك. وقال عطاء ( لا تَقُولُوا رَاعِنَا ) كانت لُغة يقولها الأنصار فنهى الله عنها. وقال الحسن ( لا تَقُولُوا رَاعِنَا ) قال الراعن من القول السخري منه. نهاهم الله أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم، وما يدعوهم إليه من الإسلام. وكذا روي عن ابن جُرَيج أنه قال مثله. وقال أبو صخر ( لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا ) قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين، فيقول أرعنا سمعك. فأعظم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقال ذلك له .

وقال السدي كان رجل من اليهود من بني قينقاع، يدعى رفاعة بن زيد يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لقيه فكلمه قال أرعني سمعك واسمع غير مُسْمع. وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تُفَخم بهذا، فكان ناس منهم يقولون اسمع غير مسمع غَيْرَ صاغر. وهي كالتي في سورة النساء. فتقدم الله إلى المؤمنين أن لا يقولوا راعنا.

وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، بنحو من هذا. قال ابن جرير والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم راعنا؛ لأنها كلمة كرهها الله تعالى أن يقولها لنبيه صلى الله عليه وسلم، نظير الذي ذكر عن النبي أنه قال "لا تقولوا للعنب الكرم، ولكن قولوا الحَبَلَة. ولا تقولوا عبدي، ولكن قولوا فتاي". وما أشبه ذلك.

وقوله تعالى ( مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنـزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) يبين بذلك تعالى شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين، الذين حذر تعالى من مشابهتهم للمؤمنين؛ ليقطع المودة بينهم وبينهم. وينبِّه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين من الشرع التام الكامل، الذي شرعه لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، حيث يقول تعالى (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)
اقرأ المزيد >>

الجمعة، 18 مارس 2011

وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (المائدة 50،49،48، تفسير ابن كثير، مجلد 1، صفحة 427)



لما ذكر تعالى التوراة التي أنـزلها الله على موسى كليمه عليه السلام ومدحها وأثنى عليها، وأمر باتباعها حيث كانت سائغة الاتباع، وذكر الإنجيل ومدحه، وأمر أهله بإقامته واتباع ما فيه، كما تقدم بيانه، شرع تعالى في ذكر القرآن العظيم، الذي أنـزله على عبده ورسوله الكريم، فقال ( وَأَنـزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) أي بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله، ( مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ) أي من الكتب المتقدمة المتضمنة ذكْرَه ومَدْحَه، وأنه سينـزل من عند الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فكان نـزوله كما أخبرت به، مما زادها صدقًا عند حامليها من ذوي البصائر، الذين انقادوا لأمر الله واتبعوا شرائع الله، وصدقوا رسل الله، كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا) (الإسراء 107، 108) أي إن كان ما وعدنا الله على ألسنة الرسل المتقدمين، من مجيء محمد، عليه السلام، لَمَفْعُولا أي لكائنًا لا محالة ولا بد.

وقوله ( وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) قال سفيان الثوري وغيره، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، أي مؤتمنًا عليه. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس المهيمن الأمين، قال القرآن أمين على كل كتاب قبله. وروي عن عِكْرِمَة، وسعيد بن جُبَيْر، ومجاهد، ومحمد بن كعب، وعطية، والحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني، والسُّدِّي، وابن زيد، نحو ذلك. وقال ابن جريج القرآن أمين على الكتب المتقدمة، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل. وعن الوالبي، عن ابن عباس ( وَمُهَيْمِنًا ) أي شهيدًا. وكذا قال مجاهد، وقتادة، والسُّدِّي. وقال العَوْفِي عن ابن عباس ( وَمُهَيْمِنًا ) أي حاكمًا على ما قبله من الكتب.

وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، فإن اسم "المهيمن" يتضمن هذا كله، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم، الذي أنـزله آخر الكتب وخاتمها، أشملها وأعظمها وأحكمها حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره؛ فلهذا جعله شاهدًا وأمينًا وحاكمًا عليها كلها. وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة، فقال تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَـزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر 9).

فأما ما حكاه ابن أبي حاتم، عن عكرمة، وسعيد بن جبير، وعطاء الخراساني، وابن أبي نَجيح عن مجاهد؛ أنهم قالوا في قوله ( وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم أمين على القرآن، فإنه صحيح في المعنى، ولكن في تفسير هذا بهذا نظر، وفي تنـزيله عليه من حيث العربية أيضًا نظر. وبالجملة فالصحيح الأول، قال أبو جعفر بن جرير، بعد حكايته له عن مجاهد وهذا التأويل بعيد من المفهوم في كلام العرب، بل هو خطأ، وذلك أن "المهيمن" عطف على "المصدق"، فلا يكون إلا من صفة ما كان "المصدق" صفة له. قال: ولو كان كما قال مجاهد لقال "وأنـزلنا إليك الكتاب مُصدقا لما بين يديه من الكتاب مهيمنا عليه"، يعني من غير عطف.

وقوله ( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ ) أي فاحكم يا محمد بين الناس عَرَبهم وعجمهم، أُميهم وكتابيهم ( بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ ) إليك في هذا الكتاب العظيم، وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في شرعك. هكذا وجهه ابن جرير بمعناه.

وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عمار، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم مخيرًا، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم. فردهم إلى أحكامهم، فنـزلت ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا.

وقوله ( وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) أي آراءهم التي اصطلحوا عليها، وتركوا بسببها ما أنـزل الله على رسوله؛ ولهذا قال: ( وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ) أي لا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء.

وقوله ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن يوسف بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن التميمي، عن ابن عباس: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً ) قال: سبيلا. وحدثنا أبو سعيد، حدثنا وَكِيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس ( وَمِنْهَاجًا ) قال وسنة. وكذا روى العَوْفِيّ، عن ابن عباس ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) سبيلا وسنة. وكذا رُوي عن مجاهد وعكرمة، والحسن البصري، وقتادة، والضحاك، والسُّدِّي، وأبي إسحاق السبيعي، أنهم قالوا في قوله ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) أي سبيلا وسنة.

وعن ابن عباس ومجاهد أيضًا وعطاء الخراساني عكسه ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) أي: سنة وسبيلا والأول أنسب، فإن الشرعة وهي الشريعة أيضا، هي ما يبتدأ فيه إلى الشيء ومنه يقال: "شرع في كذا" أي ابتدأ فيه. وكذا الشريعة وهي ما يشرع منها إلى الماء. أما "المنهاج" فهو الطريق الواضح السهل، والسنن الطرائق، فتفسير قوله ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) بالسبيل والسنة أظهر في المناسبة من العكس، والله أعلم.

ثم هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان، باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام، المتفقة في التوحيد، كما ثبت في صحيح البخاري، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد" يعني بذلك التوحيد، الذي بعث الله به كل رسول أرسله، وضمنه كل كتاب أنـزله، كما قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء 25) وقال تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل 36)، وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراما ثم يحل في الشريعة الأخرى، وبالعكس، وخفيفًا فيزاد في الشدة في هذه دون هذه. وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة، والحجة الدامغة.

قال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة قوله ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) يقول سبيلا وسنة، والسنن مختلفة هي في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي الفرقان شريعة، يحل الله فيها ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الذي لا يقبل الله غيره التوحيد والإخلاص لله، الذي جاءت به الرسل.

وقيل المخاطب بهذا هذه الأمة، ومعناه: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا ) القرآن ( مِنْكُمْ ) أيتها الأمة ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) أي هو لكم كلكم، تقتدون به. وحُذف الضمير المنصوب في قوله ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ ) أي جعلناه، يعني القرآن، ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) أي سبيلا إلى المقاصد الصحيحة، وسنة أي طريقًا ومسلكًا واضحًا بينًا.

هذا مضمون ما حكاه ابن جرير عن مجاهد، رحمه الله، والصحيح القول الأول، ويدل على ذلك قوله تعالى ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) فلو كان هذا خطابًا لهذه الأمة لما صح أن يقول ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) وهم أمة واحدة، ولكن هذا خطاب لجميع الأمم، وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة، لا ينسخ شيء منها. ولكنه تعالى شرع لكل رسول شرْعة على حدَة، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة، وجعله خاتم الأنبياء كلهم؛ ولهذا قال تعالى ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ) أي أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة، ليختبر عباده فيما شرع لهم، ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله.

وقال عبد الله بن كثير: ( فِي مَا آتَاكُمْ ) يعني من الكتاب.

ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها، فقال ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ) وهي طاعة الله واتباع شرعه، الذي جعله ناسخًا لما قبله، والتصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنـزله.

ثم قال تعالى ( إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ) أي معادكم أيها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة ( فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) أي فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق، فيجزي الصادقين بصدقهم، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق، العادلين عنه إلى غيره بلا دليل ولا برهان، بل هم معاندون للبراهين القاطعة، والحجج البالغة، والأدلة الدامغة.

وقال الضحاك ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ) يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم. والأظهر الأول.

وقوله ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك، والنهي عن خلافه.

ثم قال تعالى ( وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنـزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) أي احذر أعداءك اليهود أن يدلسوا عليك الحق فيما يُنْهُونه إليك من الأمور، فلا تغتر بهم، فإنهم كَذبة كَفَرة خونة. ( فَإِنْ تَوَلَّوْا ) أي عما تحكم به بينهم من الحق، وخالفوا شرع الله ( فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ) أي فاعلم أن ذلك كائن عن قَدر الله وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما عليهم من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم. ( وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ) أي أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم، مخالفون للحق ناؤون عنه، كما قال تعالى (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (يوسف: 03). وقال تعالى (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (الأنعام 116).

وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد، وابن صلوبا، وعبد الله بن صوريا، وشاس بن قيس، بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى محمد، لعلنا نفتنه عن دينه! فأتوه، فقالوا يا محمد، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك، ونصدقك! فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله، عز وجل، فيهم ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنـزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) إلى قوله ( لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.

وقوله ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المُحْكَم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان، الذي وضع لهم اليَساق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير، قال الله تعالى ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) أي يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون. ( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) أي ومن أعدل من الله في حكمه لمن عَقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هلال بن فياض، حدثنا أبو عبيدة الناجي قال: سمعت الحسن يقول: من حكم بغير حكم الله، فحكم الجاهلية [هو]

وأخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نَجِيح قال: كان طاوس إذا سأله رجل أفضِّل بين ولدي في النحْل؟ قرأ ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ )

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نَجْدة الخوطي، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب بن أبي حمزة، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أبغض الناس إلى الله عز وجل، مبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، وطالب دم امرئ بغير حق ليُرِيق دمه". وروى البخاري، عن أبي اليمان بإسناده نحوه.
اقرأ المزيد >>

الأربعاء، 16 مارس 2011

قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (الأنعام 65،64، تفسير البغوي، مجلد 1، صفحة 302)

 

( قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا ) قرأ أهل الكوفة وأبو جعفر ( ينجيكم) بالتشديد, مثل قوله تعالى: (قل من ينجيكم) وقرأ الآخرون هذا بالتخفيف, ( وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ) والكرب غاية الغم الذي يأخذ بالنفس, ( ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ) يريد أنهم يقرون أن الذي يدعونه عند الشدة هو الذي ينجيهم ثم تشركون معه الأصنام التي قد علموا أنها لا تضر ولا تنفع.

قوله عز وجل: ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ) قال الحسن وقتادة: نـزلت الآية في أهل الإيمان, وقال قوم نـزلت في المشركين.

قوله ( عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ) يعني: الصيحة والحجارة والريح والطوفان, كما فعل بعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط وقوم نوح, ( أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ) يعني: الرجفة والخسف كما فعل بقوم شعيب وقارون.

وعن ابن عباس ومجاهد: ( عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ) السلاطين الظلمة, و(من تحت أرجلكم) العبيد السوء, وقال الضحاك: ( مِنْ فَوْقِكُمْ ) من قبل كباركم ( أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ) أي من أسفل منكم, ( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا ) أي: يخلطكم فرقا ويبث فيكم الأهواء المختلفة, ( وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) يعني: السيوف المختلفة, يقتل بعضكم بعضا.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أن أحمد بن عبد الله النعيمي أن محمد بن يوسف أن محمد بن إسماعيل أن أبو النعمان أن حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر قال: لما نـزلت هذه الآية ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أعوذ بوجهك", قال: ( أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ) قال: "أعوذ بوجهك", قال: ( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا أهون أو هذا أيسر" .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أن أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أن أبو جعفر محمد بن علي دحيم الشيباني أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة أن يعلى بن عبيد الطنافسي أن عثمان بن حكيم عن عامر بن سعد بن وقاص عن أبيه, قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مررنا على مسجد بني معاوية فدخل فصلى ركعتين وصلينا معه فناجى ربه طويلا ثم قال: "سألت ربي ثلاثا: سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها, وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها, وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم, فمنعنيها"

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أن السيد أبو الحسن محمد بن الحسين بن داود العلوي أن أبو بكر محمد بن أحمد بن دلويه الدقاق ثنا محمد بن إسماعيل البخاري ثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني أخي عن سليمان بن بلال عن عبيد الله بن عمر عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري أن عبد الله بن عمر جاءهم ثم قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في مسجد فسأل الله ثلاثا فأعطاه اثنتين ومنعه واحدة, سأله أن لا يسلط على أمته عدوا من غيرهم يظهر عليهم فأعطاه ذلك, وسأله أن لا يهلكهم بالسنين فأعطاه ذلك وسأله أن لا يجعل بأس بعضهم على بعض, فمنعه ذلك".
اقرأ المزيد >>

الاثنين، 14 مارس 2011

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ* قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ* قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيم* قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. (سبأ 24،25،26،27، تفسير ابن كثير، مجلد 6، صفحة 144)


يقول تعالى مقررًا تفرُّدَه بالخلق والرزق، وانفراده بالإلهية أيضا، فكما كانوا يعترفون بأنه لا يرزقهم من السماء والأرض -أي: بما ينـزل من المطر وينبت من الزرع-إلا الله، فكذلك فليعلموا أنه لا إله غيره.

وقوله: ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) : هذا من باب اللف والنشر، أي: واحد من الفريقين مبطل، والآخر محق، لا سبيل إلى أن تكونوا أنتم ونحن على الهدى أو على الضلال، بل واحد منا مصيب، ونحن قد أقمنا البرهان على التوحيد، فدل على بطلان ما أنتم عليه من الشرك بالله؛ ولهذا قال: ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ). قال قتادة: قد قال ذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم للمشركين: والله ما نحن وإياكم على أمر واحد، إن أحد الفريقين لمهتد. وقال عِكْرِمة وزياد بن أبي مريم: معناه: إنا نحن لعلى هدى، وإنكم لفي ضلال مبين.

وقوله: ( قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) : معناه التبري منهم، أي: لستم منا ولا نحن منكم، بل ندعوكم إلى الله وإلى توحيده وإفراد العبادة له، فإن أجبتم فأنتم منا ونحن منكم، وإن كذبتم فنحن برآء منكم وأنتم بُرآء منا، كما قال تعالى: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (يونس: 41) وقال: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (سورة الكافرون).

وقوله: ( قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ) أي: يوم القيامة، يجمع بين الخلائق في صعيد واحد، ثم يفتح بيننا بالحق، أي: يحكم بيننا بالعدل، فيجزي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وستعلمون يومئذ لمن العزة والنصرة والسعادة الأبدية، كما قال تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) (الروم 14،15،16) ؛ ولهذا قال تعالى: ( وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ) أي: الحاكم العادل العالم بحقائق الأمور.

وقوله: ( قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ ) أي: أروني هذه الآلهة التي جعلتموها لله أندادا وصيَّرتموها له عدْلا. ( كَلا ) أي: ليس له نظير ولا نَديد، ولا شريك ولا عديل، ولهذا قال: ( بَلْ هُوَ اللَّهُ ) :أي: الواحد الأحد الذي لا شريك له ( الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) أي: ذو العزة التي قد قهر بها كل شيء، وَغَلَبت كل شيء، الحكيم في أفعاله وأقواله، وشرعه وقدره، تعالى وتقدس.
اقرأ المزيد >>

السبت، 12 مارس 2011

كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (الشعراء من 123 إلى 135، تفسير ابن كثير، مجلد 5، صفحة 199)

 

وهذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله هود، عليه السلام، أنه دعا قومه عادً، وكانوا قومًا يسكنون الأحقاف، وهي جبال الرمل قريبًا من بلاد حضرموت متاخمة لبلاد اليمن، وكان زمانهم بعد قوم نوح، كما قال في سورة الأعراف (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً) (الأعراف 69) وذلك أنهم كانوا في غاية من قوة التركيب، والقوة والبطش الشديد، والطول المديد، والأرزاق الدارة، والأموال والجنات والعيون، والأبناء والزروع والثمار، وكانوا مع ذلك يعبدون غير الله معه، فبعث الله إليهم رجلا منهم رسولا وبشيرًا ونذيرًا، فدعاهم إلى الله وحده، وحذرهم نقمته وعذابه في مخالفته، فقال لهم كما قال نوح لقومه.

إلى أن قال (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) ، اختلف المفسرون في الريع بما حاصله أنه المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة. تبنون هناك بناء محكما باهرًا هائلا، ولهذا قال (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً) أي معلما بناء مشهورًا، تعبثون، وإنما تفعلون ذلك عبثًا لا للاحتياج إليه، بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة، ولهذا أنكر عليهم نبيهم، عليه السلام، ذلك، لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان في غير فائدة، واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة.

ثم قال ( وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ) . قال مجاهد:المصانع: البروج المشيدة، والبنيان المخلد. وفي رواية عنه: بروج الحمام. وقال قتادة: هي مأخذ الماء. قال قتادة: وقرأ بعض القراء "وتتخذون مصانع كأنكم خالدون". وفي القراءة المشهورة: (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أي: لكي تقيموا فيها أبدًا، وليس ذلك بحاصل لكم، بل زائل عنكم، كما زال عمن كان قبلكم.

وقال ابن أبي حاتم، رحمه الله: حدثنا أبي، حدثنا الحكم بن موسى، حدثنا الوليد، حدثنا ابن عَجْلان، حدثني عَوْن بن عبد الله بن عتبة، أن أبا الدرداء، رضي الله عنه، لما رأى ما أحدث المسلمون في الغُوطة من البنيان ونصب الشجر، قام في مسجدهم فنادى: يا أهل دمشق، فاجتمعوا إليه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ألا تستحيون! ألا تستحيون! تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تدركون، إنه كانت قبلكم قرون، يجمعون فيرعون، ويبنون فيوثقون ، ويأملون فيطيلون، فأصبح أملهم غرورًا، وأصبح جمعهم بورًا، وأصبحت مساكنهم قبورًا، ألا إن عادًا ملكت ما بين عدن وعمان خيلا وركابًا، فمن يشتري مني ميراث عاد بدرهمين؟.

وقوله ( وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ) وصفهم بالقوة والغلظة والجبروت.

( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) أي اعبدوا ربكم، وأطيعوا رسولكم.

ثم شرع يذكرهم نعم الله عليهم فقال: (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي إن كذبتم وخالفتم، فدعاهم إلى الله بالترغيب والترهيب، فما نفع فيهم.
اقرأ المزيد >>

الخميس، 10 مارس 2011

فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ * وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (الحاقة، من 38 إلى 52، تفسير السعدي، مجلد 1، صفحة 809)


أقسم تعالى بما يبصر الخلق من جميع الأشياء وما لا يبصرونه، فدخل في ذلك كل الخلق بل يدخل في ذلك نفسه المقدسة، على صدق الرسول بما جاء به من هذا القرآن الكريم، وأن الرسول الكريم بلغه عن الله تعالى.

ونزه الله رسوله عما رماه به أعداؤه، من أنه شاعر أو ساحر، وأن الذي حملهم على ذلك عدم إيمانهم وتذكرهم، فلو آمنوا وتذكروا، لعلموا ما ينفعهم ويضرهم، ومن ذلك، أن ينظروا في حال محمد صلى الله عليه وسلم، ويرمقوا أوصافه وأخلاقه، لرأوا أمرا مثل الشمس يدلهم على أنه رسول الله حقا، وأن ما جاء به تنزيل رب العالمين، لا يليق أن يكون قول البشر بل هو كلام دال على عظمة من تكلم به، وجلالة أوصافه، وكمال تربيته لعباده، وعلوه فوق عباده.

وأيضا، فإن هذا ظن منهم بما لا يليق بالله وحكمته فإنه لو تقول عليه وافترى ( بَعْضَ الأقَاوِيلِ ) الكاذبة، ( لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) وهو عرق متصل بالقلب إذا انقطع مات منه الإنسان، فلو قدر أن الرسول -حاشا وكلا- تقول على الله لعاجله بالعقوبة، وأخذه أخذ عزيز مقتدر، لأنه حكيم، على كل شيء قدير، فحكمته تقتضي أن لا يمهل الكاذب عليه، الذي يزعم أن الله أباح له دماء من خالفه وأموالهم، وأنه هو وأتباعه لهم النجاة، ومن خالفه فله الهلاك.

فإذا كان الله قد أيد رسوله بالمعجزات، وبرهن على صدق ما جاء به بالآيات البينات، ونصره على أعدائه، ومكنه من نواصيهم، فهو أكبر شهادة منه على رسالته.

وقوله: ( فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) أي: لو أهلكه، ما امتنع هو بنفسه، ولا قدر أحد أن يمنعه من عذاب الله.

( وَإِنَّهُ ) أي: القرآن الكريم ( لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) يتذكرون به مصالح دينهم ودنياهم، فيعرفونها، ويعملون عليها، يذكرهم العقائد الدينية، والأخلاق المرضية، والأحكام الشرعية، فيكونون من العلماء الربانيين، والعباد العارفين، والأئمة المهديين.

( وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ ) به، وهذا فيه تهديد ووعيد للمكذبين، فإنه سيعاقبهم على تكذيبهم بالعقوبة البليغة.

( وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ) فإنهم لما كفروا به، ورأوا ما وعدهم به، تحسروا إذ لم يهتدوا به، ولم ينقادوا لأمره، ففاتهم الثواب، وحصلوا على أشد العذاب، وتقطعت بهم الأسباب.

( وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ) أي: أعلى مراتب العلم، فإن أعلى مراتب العلم اليقين وهو العلم الثابت، الذي لا يتزلزل ولا يزول.

واليقين مراتبه ثلاثة، كل واحدة أعلى مما قبلها:

أولها: علم اليقين، وهو العلم المستفاد من الخبر.

ثم عين اليقين، وهو العلم المدرك بحاسة البصر.

ثم حق اليقين، وهو العلم المدرك بحاسة الذوق والمباشرة.

وهذا القرآن الكريم، بهذا الوصف، فإن ما فيه من العلوم المؤيدة بالبراهين القطعية، وما فيه من الحقائق والمعارف الإيمانية، يحصل به لمن ذاقه حق اليقين.

( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) أي: نزهه عما لا يليق بجلاله، وقدسه بذكر أوصاف جلاله وجماله وكماله.
اقرأ المزيد >>

الثلاثاء، 8 مارس 2011

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (القيامة 19،18،17،16، تفسير ابن كثير، مجلد 7، صفحة 486)


هذا تعليم من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقيه الوحي من الملك، فإنه كان يبادر إلى أخذه، ويسابق الملك في قراءته، فأمره الله عز وجل إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له، وتكفل له أن يجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه له ويفسره ويوضحه. فالحالة الأولى جمعه في صدره، والثانية تلاوته، والثالثة تفسيره وإيضاح معناه؛ ولهذا قال: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) أي: بالقرآن، كما قال: (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) ( طه 114) .

ثم قال: ( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ ) أي: في صدرك، ( وَقُرْآنَهُ ) أي: أن تقرأه، ( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ ) أي: إذا تلاه عليك الملك عن الله عز وجل ، ( فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) أي: فاستمع له، ثم اقرأه كما أقرأك، ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) أي: بعد حفظه وتلاوته نبينه لك ونوضحه، ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، عن أبي عَوَانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنـزيل شدة، فكان يحرك شفتيه -قال: فقال لي ابن عباس: أنا أحرك شفتي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرك شفتيه. وقال لي سعيد: وأنا أحرك شفتي كما رأيت ابن عباس يحرك شفتيه - فأنـزل الله عز وجل ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ) قال: جمعه في صدرك، ثم تقرأه، ( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) فاستمع له وأنصت، ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) فكان بعد ذلك إذا انطلق جبريل قرأه كما أقرأه. وقد رواه البخاري ومسلم، من غير وجه، عن موسى بن أبي عائشة، به ولفظ البخاري: فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عز وجل .

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو يحيى التيمي، حدثنا موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنـزل عليه الوحي يلقى منه شدة، وكان إذا نـزل عليه عرف في تحريكه شفتيه، يتلقى أوله ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره، فأنـزل الله: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) وهكذا قال الشعبي، والحسن البصري، وقتادة، ومجاهد، والضحاك، وغير واحد: إن هذه الآية نـزلت في ذلك.

وقد روى ابن جرير من طريق العوفي، عن ابن عباس: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) قال: كان لا يفتر من القراءة مخافة أن ينساه، فقال الله: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا ) أن نجمعه لك ( وَقُرْآنَهُ ) أن نقرئك فلا تنسى. وقال ابن عباس وعطية العوفي: ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) تبيين حلاله وحرامه. وكذا قال قتادة.
اقرأ المزيد >>