الجمعة، 29 أبريل 2011

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (الأعراف 95،94، تفسير ابن كثير، مجلد 2، صفحة 148)




يقول تعالى مخبرًا عما اختبر به الأمم الماضية، الذين أرسل إليهم الأنبياء بالبأساء والضراء، يعني ( بالْبَأْسَاءِ ) ما يصيبهم في أبدانهم من أمراض وأسقام. ( وَالضَّرَّاءِ ) ما يصيبهم من فقر وحاجة ونحو ذلك، ( لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ) أي يدعون ويخشعون ويبتهلون إلى الله تعالى في كشف ما نـزل بهم.

وتقدير الكلام أنه ابتلاهم بالشدة ليتضرعوا، فما فعلوا شيئا من الذي أراد الله منهم، فقلب الحال إلى الرخاء ليختبرهم فيه؛ ولهذا قال ( ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ ) أي حولَّنا الحال من شدة إلى رخاء، ومن مرض وسقم إلى صحة وعافية، ومن فقر إلى غنى، ليشكروا على ذلك، فما فعلوا.

وقوله ( حَتَّى عَفَوْا ) أي كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم، يقال عفا الشيء إذا كثر، ( وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) يقول تعالى ابتلاهم بهذا وهذا ليتضرعوا ويُنيبوا إلى الله، فما نَجَح فيهم لا هذا ولا هذا، ولا انتهوا بهذا ولا بهذا بل قالوا قد مسنا من البأساء والضراء ثم بعده من الرخاء مثل ما أصاب آباءنا في قديم الدهر، وإنما هو الدهر تارات وتارات، ولم يتفطنوا لأمر الله فيهم، ولا استشعروا ابتلاء الله لهم في الحالين. وهذا بخلاف حال المؤمنين الذين يشكرون الله على السراء، ويصبرون على الضراء، كما ثبت في الصحيحين "عجبًا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له، وإن أصابته سَراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضَرَّاء صَبَر فكان خيرا له" فالمؤمن من يتفطن لما ابتلاه الله به من السراء والضراء ؛ ولهذا جاء في الحديث "لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نَقِيِّا من ذنوبه، والمنافق مثله كمثل الحمار، لا يدري فيم ربطه أهله، ولا فيم أرسلوه" أو كما قال. ولهذا عقب هذه الصفة بقوله ( فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أي أخذناهم بالعقوبة بغتة، أي على بغتة منهم، وعدم شعور منهم، أي أخذناهم فجأة كما جاء في الحديث "موت الفجأة رحمة للمؤمن وأخذة أسف للكافر".
اقرأ المزيد >>

الأربعاء، 27 أبريل 2011

أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (التكاثر، تفسير السعدي، مجلد 1، صفحة 870)




يقول تعالى موبخًا عباده عن اشتغالهم عما خلقوا له من عبادته وحده لا شريك له، ومعرفته، والإنابة إليه، وتقديم محبته على كل شيء ( أَلْهَاكُمُ ) عن ذلك المذكور ( التَّكَاثُرُ ) ولم يذكر المتكاثر به، ليشمل ذلك كل ما يتكاثر به المتكاثرون، ويفتخر به المفتخرون، من التكاثر في الأموال، والأولاد، والأنصار، والجنود، والخدم، والجاه، وغير ذلك مما يقصد منه مكاثرة كل واحد للآخر، وليس المقصود به الإخلاص لله تعالى.

فاستمرت غفلتكم ولهوتكم وتشاغلكم ( حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ) فانكشف لكم حينئذ الغطاء، ولكن بعد ما تعذر عليكم استئنافه.

ودل قوله ( حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ) أن البرزخ دار مقصود منها النفوذ إلى الدار الباقية ، أن الله سماهم زائرين، ولم يسمهم مقيمين.

فدل ذلك على البعث والجزاء بالأعمال في دار باقية غير فانية، ولهذا توعدهم بقوله ( كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ) أي لو تعلمون ما أمامكم علمًا يصل إلى القلوب، لما ألهاكم التكاثر، ولبادرتم إلى الأعمال الصالحة.

ولكن عدم العلم الحقيقي، صيركم إلى ما ترون، ( لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) أي لتردن القيامة، فلترون الجحيم التي أعدها الله للكافرين.

( ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ) أي رؤية بصرية، كما قال تعالى ( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا) (الكهف 53).

( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) الذي تنعمتم به في دار الدنيا، هل قمتم بشكره، وأديتم حق الله فيه، ولم تستعينوا به، على معاصيه، فينعمكم نعيمًا أعلى منه وأفضل. أم اغتررتم به، ولم تقوموا بشكره؟ بل ربما استعنتم به على معاصي الله فيعاقبكم على ذلك، قال تعالى ( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ) (الأحقاف 20).
اقرأ المزيد >>

الاثنين، 25 أبريل 2011

وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (الأنعام 137،136، تفسير ابن كثير، المجلد 2، صفحة 24)





هذا ذم وتوبيخ من الله للمشركين الذين ابتدعوا بدعًا وكفرًا وشركًا، وجعلوا لله جزءًا من خلقه، وهو خالق كل شيء سبحانه وتعالى عما يشركون؛ ولهذا قال تعالى ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ ) أي مما خلق وبرأ ( مِنَ الْحَرْثِ ) أي من الزروع والثمار ( وَالأنْعَامِ نَصِيبًا ) أي جزءا وقسما، ( فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا )

وقوله ( فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ ) قال علي بن أبي طلحة، والعَوْفي، عن ابن عباس؛ أنه قال في تفسير هذه الآية إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثًا، أو كانت لهم ثمرة، جعلوا لله منه جزءًا وللوثن جزءًا، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه. وإن سقط منه شيء فيما سُمّي للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن. وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن. فسقى شيئا جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن. وإن سقط شيء من الحرث والثمرة التي جعلوا لله، فاختلط بالذي جعلوه للوثن، قالوا هذا فقير. ولم يردوه إلى ما جعلوه لله. وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله. فسقى ما سُمّي للوثن تركوه للوثن، وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فيجعلونه للأوثان، ويزعمون أنهم يحرمونه لله، فقال الله عز وجل ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا ) الآية. وهكذا قال مجاهد، وقتادة، والسدي، وغير واحد.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسيره كل شيء جعلوه لله من ذبْح يذبحونه، لا يأكلونه أبدا حتى يذكروا معه أسماء الآلهة. وما كان للآلهة لم يذكروا اسم الله معه، وقرأ الآية حتى بلغ ( سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) أي ساء ما يقسمون، فإنهم أخطؤوا أولا في القسمة، فإن الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وخالقه، وله الملك، وكل شيء له وفي تصرفه وتحت قدرته ومشيئته، لا إله غيره، ولا رب سواه. ثم لما قسموا فيما زعموا لم يحفظوا القسمة التي هي فاسدة، بل جاروا فيها، كما قال تعالى ( وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ) (النحل  57) ، وقال تعالى ( وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ) (الزخرف  15) ، وقال تعالى ( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ) (النجم  21،22) .

يقول تعالى وكما زينت الشياطين لهؤلاء المشركين أن يجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا، كذلك زينوا لهم قتل أولادهم خشية الإملاق، ووأد البنات خشية العار. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم زينوا لهم قتل أولادهم.

وقال مجاهد ( شُرَكَاؤُهُمْ ) شياطينهم، يأمرونهم أن يئدوُا أولادهم خشية العَيْلة. وقال السدي أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات. وإما ( لِيُرْدُوهُمْ ) فيهلكوهم، وإما ( لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ) أي فيخلطون عليهم دينهم. ونحو ذلك قال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وهذا كقوله تعالى ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) (النحل  58 ، 59) ، وقال تعالى ( وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) (التكوير  8 ، 9) . وقد كانوا أيضا يقتلون الأولاد من الإملاق، وهو الفقر، أو خشية الإملاق أن يحصل لهم في تاني المال وقد نهاهم الله عن قتل أولادهم لذلك وإنما كان هذا كله من شرع الشيطان تزيينه لهم ذلك.

قال تعالى ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ ) أي كل هذا واقع بمشيئته تعالى وإرادته واختياره لذلك كونًا، وله الحكمة التامة في ذلك، فلا يسأل عما يفعل وهم يُسألون. ( فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) أي فدعهم واجتنبهم وما هم فيه، فسيحكم الله بينك وبينهم.
اقرأ المزيد >>

السبت، 23 أبريل 2011

كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (التوبة 69، تفسير الطبري، مجلد 10، صفحة 136)




 
قال أبو جعفر يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قل، يا محمد، لهؤلاء المنافقين الذين قالوا إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، أبالله وآيات كتابه ورسوله كنتم تستهزئون؟ ( كالذين من قبلكم ) من الأمم الذين فعلوا فعلكم، فأهلكهم الله، وعجل لهم في الدنيا الخزي، مع ما أعدَّ لهم من العقوبة والنكال في الآخرة. يقول لهم جل ثناؤه واحذروا أن يحل بكم من عقوبة الله مثل الذي حلّ بهم، فإنهم كانوا أشد منكم قوةً وبطشًا، وأكثر منكم أموالا وأولادًا ( فاستمتعوا بخلاقهم )، يقول فتمتعوا بنصيبهم وحظهم من دنياهم ودينهم، ورضوا بذلك من نصيبهم في الدنيا عوضًا من نصيبهم في الآخرة، وقد سلكتم أيها المنافقون سبيلهم في الاستمتاع بخلاقكم. يقول فعلتم بدينكم ودنياكم، كما استمتع الأمم الذين كانوا من قبلكم الذين أهلكتهم بخِلافهم أمري، ( بخلاقهم ) يقول كما فعل الذين من قبلكم بنصيبهم من دنياهم ودينهم، ( وخضتم ) في الكذب والباطل على الله (كالذي خاضوا)، يقول وخضتم أنتم أيضًا أيها المنافقون، كخوض تلك الأمم قبلكم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

*ذكر من قال ذلك حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لتأخذُنَّ كما أخذ الأمم من قبلكم، ذراعًا بذراع، وشبرًا بشبر، وباعًا بباع، حتى لو أن أحدًا من أولئك دخل جُحر ضبٍّ لدخلتموه " قال أبو هريرة اقرأوا إن شئتم القرآن (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادًا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا) قالوا يا رسول الله، كما صنعت فارس والروم؟ قال فهل الناس إلا هم؟

 حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج، عن عمر بن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس قوله ( كالذين من قبلكم ) الآية قال، قال ابن عباس ما أشبه الليلة بالبارحة! ( كالذين من قبلكم )، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم، لا أعلم إلا أنه قال والذي نفسي بيده لتَتَّبِعُنَّهم حتى لو دخل الرجل منهم جُحْر ضبٍّ لدخلتموه.

 قال ابن جريج وأخبرنا زياد بن سعد، عن محمد بن زيد بن مهاجر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده لتتبعُن سَننَ الذين من قبلكم، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، وباعًا بباع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه! قالوا ومن هم، يا رسول الله؟ أهلُ الكتاب! قال فَمَهْ! "

 حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن (فاستمتعوا بخلاقهم)، قال بدينهم.

 حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حَذَّركم أن تحدثوا في الإسلام حَدَثًا، وقد علم أنه سيفعل ذلك أقوامٌ من هذه الأمة، فقال الله في ذلك ( فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا )، وإنما حسبوا أن لا يقع بهم من الفتنة ما وقع ببني إسرائيل قبلهم، وإن الفتنة عائدة كما بدأت.

وأما قوله ( أولئك حبطت أعمالهم ) فإن معناه هؤلاء الذين قالوا إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ وفعلوا في ذلك فعل الهالكين من الأمم قبلهم ( حبطت أعمالهم )، يقول ذهبت أعمالهم باطلا. فلا ثوابَ لها إلا النار، لأنها كانت فيما يسخط الله ويكرهه ( وأولئك هم الخاسرون ) يقول وأولئك هم المغبونون صفقتهم، ببيعهم نعيم الآخرة بخلاقهم من الدنيا اليسيرِ الزهيدِ.
اقرأ المزيد >>

الخميس، 21 أبريل 2011

وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (الحج 37،36، تفسير السعدي، مجلد 1، صفحة 432)



يخبر الله أن من جملة شعائره، البدن، أي الإبل، والبقر، على أحد القولين، فتعظم وتستسمن، وتستحسن، ( لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) أي المهدي وغيره، من الأكل، والصدقة، والانتفاع، والثواب، والأجر، ( فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا ) أي عند ذبحها قولوا " بسم الله" واذبحوها، ( صَوَافَّ ) أي قائمات، بأن تقام على قوائمها الأربع، ثم تعقل يدها اليسرى، ثم تنحر.

( فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ) أي سقطت في الأرض جنوبها، حين تسلخ، ثم يسقط الجزار جنوبها على الأرض، فحينئذ قد استعدت لأن يؤكل منها، ( فَكُلُوا مِنْهَا ) وهذا خطاب للمهدي، فيجوز له الأكل من هديه، ( وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) أي الفقير الذي لا يسأل، تقنعا، وتعففا، والفقير الذي يسأل، فكل منهما له حق فيهما.

( كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ ) أي البدن ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) الله على تسخيرها، فإنه لولا تسخيره لها، لم يكن لكم بها طاقة، ولكنه ذللها لكم وسخرها، رحمة بكم وإحسانا إليكم، فاحمدوه.

وقوله ( لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا ) أي ليس المقصود منها ذبحها فقط. ولا ينال الله من لحومها ولا دمائها شيء، لكونه الغني الحميد، وإنما يناله الإخلاص فيها، والاحتساب، والنية الصالحة، ولهذا قال ( وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ) ففي هذا حث وترغيب على الإخلاص في النحر، وأن يكون القصد وجه الله وحده، لا فخرا ولا رياء، ولا سمعة، ولا مجرد عادة، وهكذا سائر العبادات، إن لم يقترن بها الإخلاص وتقوى الله، كانت كالقشور الذي لا لب فيه، والجسد الذي لا روح فيه.

( كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ ) أي تعظموه وتجلوه، ( عَلَى مَا هَدَاكُمْ ) أي مقابلة لهدايته إياكم، فإنه يستحق أكمل الثناء وأجل الحمد، وأعلى التعظيم، ( وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ) بعبادة الله بأن يعبدوا الله، كأنهم يرونه، فإن لم يصلوا إلى هذه الدرجة فليعبدوه، معتقدين وقت عبادتهم اطلاعه عليهم، ورؤيته إياهم، والمحسنين لعباد الله، بجميع وجوه الإحسان من نفع مال، أو علم، أو جاه، أو نصح، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو كلمة طيبة ونحو ذلك، فالمحسنون لهم البشارة من الله، بسعادة الدنيا والآخرة وسيحسن الله إليهم، كما أحسنوا في عبادته ولعباده ( هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ ) ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ).
اقرأ المزيد >>

الثلاثاء، 19 أبريل 2011

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (الأنعام 113،112، تفسير ابن كثير، مجلد 1، صفحة 728)




يقول تعالى وكما جعلنا لك -يا محمد - أعداءً يخالفونك، ويعادونك جعلنا لكل نبي من قبلك أيضا أعداء فلا يَهِيدنَّك ذلك، كما قال تعالى ( فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ) (آل عمران 184)، وقال تعالى ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ) (الأنعام 34)، وقال تعالى ( مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ) (فصلت 31). وقال تعالى ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) (الفرقان 43).

وقال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي.

وقوله ( شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ ) بدل من ( عَدُوًّا ) أي لهم أعداء من شياطين الإنس والجن، ومن هؤلاء وهؤلاء، قبحهم الله ولعنهم.

قال عبد الرزاق أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة في قوله تعالى ( شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ ) قال من الجن شياطين، ومن الإنس شياطين، يوحي بعضهم إلى بعض، قال قتادة وبلغني أن أبا ذر كان يوما يصلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "تَعَوَّذ يا أبا ذر من شياطين الإنس والجن". فقال أو إن من الإنس شياطين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعم". وهذا منقطع بين قتادة وأبي ذر وقد روي من وجه آخر عن أبي ذر، رضي الله عنه.
قال ابن جرير حدثنا المثنى، حدثنا أبو صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن أبي عبد الله محمد بن أيوب وغيره من المشيخة، عن ابن عائذ، عن أبي ذر قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس، قال، فقال "يا أبا ذر، هل صليت؟". قال لا يا رسول الله. قال "قم فاركع ركعتين". قال ثم جئت فجلستُ إليه، فقال "يا أبا ذر، هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس؟". قال قلت لا يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين؟ قال "نعم، هم شر من شياطين الجن"، وهذا أيضا فيه انقطاع وروي متصلا.

كما قال الإمام أحمد حدثنا وَكِيع، حدثنا المسعودي، أنبأنى أبو عمر الدمشقي، عن عبيد بن الخشخاش، عن أبي ذر قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فجلست فقال "يا أبا ذر هل صليت؟" . قلت لا. قال "قم فصل". قال فقمت فصليت، ثم جلست فقال "يا أبا ذر، تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن". قال قلت يا رسول الله، وللإنس شياطين؟ قال "نعم". وذكر تمام الحديث بطوله.

وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه في تفسيره، من حديث جعفر بن عون، ويعلى بن عبيد، وعبيد الله بن موسى، ثلاثتهم عن المسعودي، به طريق أخرى عن أبي ذر قال ابن جرير حدثني المثنى، حدثنا الحجاج، حدثنا حماد، عن حميد بن هلال، حدثني رجل من أهل دمشق، عن عوف بن مالك، عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يا أبا ذر، هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن؟". قال قلت يا رسول الله، هل للإنس من شياطين؟ قال "نعم".

طريق أخرى للحديث قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عَوْف الحِمْصي، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا معان بن رفاعة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أبا ذر تعوذتَ من شياطين الجن والإنس؟". قال يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين؟ قال "نعم، شياطينَ الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا". فهذه طرق لهذا الحديث، ومجموعها يفيد قوته وصحته، والله أعلم.

وقد روي ابن جرير حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبو نُعَيم، عن شَرِيك، عن سعيد بن مسروق، عن عِكْرِمة ( شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ ) قال ليس في الإنس شياطين، ولكن شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس، وشياطين الإنس يوحون إلى شياطين الجن.

قال وحدثنا الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا إسرائيل، عن السُّدِّي، عن عِكْرِمة في قوله ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) قال للإنسى شيطان، وللجني شيطان فيلقى شيطان الإنس شيطان الجن، فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.

وقال أسباط، عن السُّدِّي، عن عِكْرِمة في قوله ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ) في تفسير هذه الآية، أما شياطين الإنس، فالشياطين التي تضل الإنس وشياطين الجن الذين يضلون الجن، يلتقيان، فيقول كل واحد منهما لصاحبه إني أضللت صاحبي بكذا وكذا، فأضْلِل أنت صاحبك بكذا وكذا، فيعلم بعضهم بعضا.

ففهم ابن جرير من هذا؛ أن المراد بشياطين الإنس عند عِكْرِمة والسُّدِّي الشياطين من الجن الذين يضلون الناس، لا أن المراد منه شياطين الإنس منهم. ولا شك أن هذا ظاهر من كلام عِكْرِمة، وأما كلام السُّدِّي فليس مثله في هذا المعنى، وهو محتمل، وقد روى ابن أبي حاتم نحو هذا، عن ابن عباس من رواية الضحاك، عنه، قال إن للجن شياطين يضلونهم مثل شياطين الإنس يضلونهم، قال فيلتقي شياطين الإنس وشياطين الجن، فيقول هذا لهذا أضلله بكذا، أضلله بكذا. فهو قوله ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا )

وعلى كل حال فالصحيح ما تقدم من حديث أبي ذر إن للإنس شياطين منهم، وشيطان كل شيء ما رده، ولهذا جاء في صحيح مسلم، عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الكلب الأسود شيطان" ومعناه - والله أعلم - شيطان في الكلاب.

وقال ابن جُرَيْج قال مجاهد في تفسير هذه الآية كفار الجن شياطين، يوحون إلى شياطين الإنس، كفار الإنس، زخرف القول غرورا.

وروى ابن أبي حاتم، عن عِكْرِمة قال قدمت على المختار فأكرمني وأنـزلني حتى كاد يتعاهد مبيتي بالليل، قال فقال لي اخرج إلى الناس فحدث الناس. قال فخرجت، فجاء رجل فقال ما تقول في الوحي؟ فقلت الوحي وحيان، قال الله تعالى ( بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ) (يوسف 3)، وقال الله تعالى ( شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) قال فهموا بي أن يأخذوني، فقلت ما لكم ذاك، إني مفتيكم وضيفكم. فتركوني.

وإنما عَرَضَ عِكْرِمة بالمختار -وهو ابن أبي عبيد - قبحه الله، وكان يزعم أنه يأتيه الوحي، وقد كانت أخته صفية تحت عبد الله بن عمر وكانت من الصالحات، ولما أخبر عبد الله بن عمر أن المختار يزعم أنه يوحى إليه قال صدق، قال الله تعالى ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ) (الأنعام 121)، وقوله تعالى ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) أي يلقي بعضهم إلى بعض القول المزين المزخرف، وهو المزوق الذي يغتر سامعه من الجهلة بأمره.

( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ) أي وذلك كله بقدر الله وقضائه وإرادته ومشيئته أن يكون لكل نَبيّ عدوّ من هؤلاء.

( فَذَرْهُمْ ) أي فدعهم، ( وَمَا يَفْتَرُونَ ) أي يكذبون، أي دع أذاهم وتوكل على الله في عداوتهم، فإن الله كافيك وناصرك عليهم.

وقوله تعالى ( وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ ) أي ولتميل إليه - قاله ابن عباس - ( أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ) أي قلوبهم وعقولهم وأسماعهم.

وقال السُّدِّي قلوب الكافرين، ( وَلِيَرْضَوْهُ ) أي يحبوه ويريدوه. وإنما يستجيب لذلك من لا يؤمن بالآخرة، كما قال تعالى ( فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ) (الصافات 161،163)، وقال تعالى ( إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) (الذاريات 8، 9 )، وقال السُّدِّي، وابن زيد وليعملوا ما هم عاملون.
اقرأ المزيد >>

الأحد، 17 أبريل 2011

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (الأنفال 25،24، تفسير البغوي، مجلد 2، صفحة 247)



قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ) يقول أجيبوهما بالطاعة، ( إِذَا دَعَاكُمْ ) الرسول صلى الله عليه وسلم، ( لِمَا يُحْيِيكُمْ ) أي إلى ما يحييكم. قال السدي هو الإيمان، لأن الكافر ميت فيحيا بالإيمان. وقال قتادة هو القرآن فيه الحياة وبه النجاة والعصمة في الدارين. وقال مجاهد هو الحق. وقال ابن إسحاق هو الجهاد أعزكم الله به بعد الذل. وقال القتيبي بل الشهادة قال الله تعالى في الشهداء ( بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (آل عمران- 169).

وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على أبي بن كعب، رضي الله عنه، وهو يصلي، فدعاه فعجل أبي في صلاته، ثم جاء فقال رسول الله "ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك؟ قال كنت في الصلاة، قال أليس يقول الله عز وجل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) ؟ فقال لا جرم يا رسول الله لا تدعوني إلا أجبت وإن كنت مصليا" .

قوله تعالى ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) قال سعيد بن جبير وعطاء يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإيمان. وقال الضحاك يحول بين الكافر والطاعة، ويحول بين المؤمن والمعصية. وقال مجاهد يحول بين المرء وقلبه فلا يعقل ولا يدري ما يعمل. وقال السدي يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه.

وقيل هو أن القوم لما دعوا إلى القتال في حالة الضعف ساءت ظنونهم واختلجت صدورهم فقيل لهم قاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه فيبدل الخوف أمنا والجبن جرأة. ( وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) فيجزيكم بأعمالكم.

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أن أحمد بن الحسن الحيري، أن حاجب بن أحمد الطوسي، أن محمد بن حماد، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كان رسول الله يكثر أن يقول "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، قالوا يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال "القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها" .

( وَاتَّقُوا فِتْنَةً ) اختبارا وبلاء ( لا تُصِيبَنَّ ) قوله "لا تصيبن" ليس بجزاء محض، ولو كان جزاء لم تدخل فيه النون، لكنه نفي وفيه طرف من الجزاء كقوله تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ) (النمل -18) وتقديره واتقوا فتنة إن لم تتقوها أصابتكم، فهو كقول القائل انـزل عن الدابة لا تطرحنك، فهذا جواب الأمر بلفظ النهي، معناه إن تنـزل لا تطرحك.

قال المفسرون نـزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعناه اتقوا فتنة تصيب الظالم وغير الظالم.

قال الحسن نـزلت في علي وعمار وطلحة والزبير رضي الله عنهم. قال الزبير لقد قرأنا هذه الآية زمانا وما أرانا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها، يعني ما كان يوم الجمل. وقال السدي ومقاتل والضحاك وقتادة هذا في قوم مخصوصين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم الفتنة يوم الجمل .وقال ابن عباس أمر الله عز وجل المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم .

أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أن أبو طاهر الحارثي، أن محمد بن يعقوب الكسائي، أن عبد الله بن محمود، أن إبراهيم بن عبد الله الخلال، ثنا عبد الله بن المبارك، عن سيف بن أبي سليمان ، قال سمعت عدي بن عدي الكندي يقول حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة". وقال ابن زيد أراد بالفتنة افتراق الكلمة ومخالفة بعضهم بعضا .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أن أحمد بن عبد الله النعيمي، أن محمد بن يوسف، ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا أبو اليمان، أن شعيب، عن الزهري، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به".

قوله ( لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ) يعني العذاب، ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )
اقرأ المزيد >>

الجمعة، 15 أبريل 2011

قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (الأنعام من 40 إلى 44، تفسير ابن كثير، مجلد 1، صفحة 636)

 


يخبر تعالى أنه الفعال لما يريد، المتصرف في خلقه بما يشاء، وأنه لا مُعقِّب لحكمه، ولا يقدر أحد على صرف حكمه عن خلقه، بل هو وحده لا شريك له، الذي إذا سئل يجيب لمن يشاء؛ ولهذا قال ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ ) أي أتاكم هذا أو هذا (أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) أي لا تدعون غيره لعلمكم أنه لا يقدر أحد على دفع ذلك سواه؛ ولهذا قال ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) أي في اتخاذكم آلهة معه.

( بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ) أي في وقت الضرورة لا تدعون أحدا سواه وتذهب عنكم أصنامكم وأندادكم كما قال وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ الآية (الإسراء 67).

وقوله ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ ) يعني الفقر والضيق في العيش ( وَالضَّرَّاءِ ) وهي الأمراض والأسقام والآلام ( لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ) أي يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون.

قال الله تعالى ( فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ) أي فهلا إذ ابتليناهم بذلك تضرعوا إلينا وتمسكنوا إلينا ( وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) أي ما رقت ولا خشعت ( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) أي من الشرك والمعاصي.

( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ) أي أعرضوا عنه وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم ( فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ) أي فتحنا عليهم أبواب الرزق من كل ما يختارون، وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم، عياذا بالله من مكره؛ ولهذا قال ( حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا ) أي من الأموال والأولاد والأرزاق ( أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ) أي على غفلة ( فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ) أي آيسون من كل خير.

قال الوالبي، عن ابن عباس المبلس الآيس.

وقال الحسن البصري من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به، فلا رأي له. ومن قَتَر عليه فلم ير أنه ينظر له، فلا رأي له، ثم قرأ ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ) قال الحسن مكر بالقوم ورب الكعبة؛ أعطوا حاجتهم ثم أخذوا. رواه ابن أبي حاتم.

وقال قتادة بَغَت القومَ أمرُ الله، وما أخذ الله قومًا قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعيمهم فلا تغتروا بالله، إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون. رواه ابن أبي حاتم أيضًا.

وقال مالك، عن الزهري ( فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ) قال إرخاء الدنيا وسترها.

وقد قال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن غَيْلان، حدثنا رِشْدِين -يعني ابن سعد أبا الحجاج المهري -عن حَرْمَلَة بن عمران التُّجِيبي، عن عُقْبة بن مسلم، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا رأيت الله يُعْطِي العبدَ من الدنيا على مَعاصيه ما يُحِبُّ، فإنما هو اسْتِدْرَاج". ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ )

ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم، من حديث حَرْمَلة وابن لَهِيعة، عن عقبة بن مسلم، عن عقبة بن عامر.

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عِرَاك بن خالد بن يزيد، حدثني أبي، عن إبراهيم بن أبي عَبْلة، عن عبادة بن الصامت (رضي الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول "إن الله تبارك وتعالى إذا أراد الله بقوم بقاء -أو نماء - رزقهم القصد والعفاف، وإذا أراد الله بقوم اقتطاعًا فتح لهم - أو فتح عليهم - باب خيانة"

( حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ) كما قال ( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) .
اقرأ المزيد >>

الأربعاء، 13 أبريل 2011

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (المائدة 102،101، تفسير السعدي، مجلد 1، صفحة 88)




ينهى الله عباده المؤمنين عن سؤال الأشياء التي إذا بينت لهم ساءتهم وأحزنتهم، وذلك كسؤال بعض المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم، وعن حالهم في الجنة أو النار، فهذا ربما أنه لو بين للسائل لم يكن له فيه خير، وكسؤالهم للأمور غير الواقعة.

وكالسؤال الذي يترتب عليه تشديدات في الشرع ربما أحرجت الأمة، وكالسؤال عما لا يعني، فهذه الأسئلة، وما أشبهها هي المنهي عنها، وأما السؤال الذي لا يترتب عليه شيء من ذلك فهذا مأمور به، كما قال تعالى ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ).

( وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ) أي وإذا وافق سؤالكم محله فسألتم عنها حين ينزل عليكم القرآن، فتسألون عن آية أشكلت، أو حكم خفي وجهه عليكم، في وقت يمكن فيه نزول الوحي من السماء، تبد لكم، أي تبين لكم وتظهر، وإلا فاسكتوا عمّا سكت الله عنه.

( عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ) أي سكت معافيا لعباده منها، فكل ما سكت الله عنه فهو مما أباحه وعفا عنه. ( وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) أي لم يزل بالمغفرة موصوفا، وبالحلم والإحسان معروفا، فتعرضوا لمغفرته وإحسانه، واطلبوه من رحمته ورضوانه.

وهذه المسائل التي نهيتم عنها ( قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ) أي جنسها وشبهها، سؤال تعنت لا استرشاد. فلما بينت لهم وجاءتهم ( أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم".
اقرأ المزيد >>

الاثنين، 11 أبريل 2011

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (الإخلاص، تفسير البغوي، مجلد 8، صفحة 173)



( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) روى أبو العالية عن أبي بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، انسب لنا ربك، فأنـزل الله تعالى هذه السورة.

وروى أبو ظبيان، وأبو صالح، عن ابن عباس أن عامر بن الطفيل وأَرْبَدَ بن ربيعةَ أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عامر إلامَ تدعونا يا محمد؟ قال إلى الله، قال صِفْهُ لنا أمن ذهب هو؟ أم من فضة؟ أم من حديد؟ أم من خشب؟ فنـزلت هذه السورة فأهلك الله أربد بالصاعقة وعامر بن الطفيل بالطاعون، وقد ذكرناه في سورة الرعد.

وقال الضحاكُ وقتادة ومقاتل جاء ناس من أحبار اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا صِفْ لنا ربك يا محمد لعلنا نؤمن بك، فإن الله أنـزل نعته في التوراة، فأخبرنا من أي شيء هو؟ وهل يأكل ويشرب؟ ومن يرث منه؟ فأنـزل الله هذه السورة.

( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أي واحد، ولا فرق بين الواحد والأحد، يدل عليه قراءة ابن مسعود قل هو الله الواحد.
( اللَّهُ الصَّمَدُ) قال ابن عباس، ومجاهدُ والحسنُ وسعيد بن جبير "الصمد" الذي لا جوف له. قال الشعبي الذي لا يأكل ولا يشرب. وقيل تفسيره ما بعده، روى أبو العالية عن أبي بن كعب قال "الصمد" الذي لم يلد ولم يولد؛ لأن من يولد سيموت، ومن يرث يورث منه. قال أبو وائلِ شقيقُ بن سلمة هو السيد الذي قد انتهى سُؤدَده، وهو رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال هو السيد الذي قد كمل في جميع أنواع السؤدد . وعن سعيد بن جبير أيضا هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله. وقيل هو السيد المقصود في الحوائج. وقال السدي هو المقصود إليه في الرغائب المستغاث به عند المصائب، تقول العرب صمدت فلانًا أصمده صمْدًا - بسكون الميم - إذا قصدته، والمقصود صمَد، بفتح الميم. وقال قتادة "الصمد" الباقي بعد فناء خلقه. وقال عكرمة "الصمد" الذي ليس فوقه أحد، وهو قول علي. وقال الربيع الذي لا تعتريه الآفات. قال مقاتل بن حيان الذي لا عيب فيه.

( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) قرأ حمزة وإسماعيل ( كفْؤًا ) ساكنة الفاء مهموزا، وقرأ حفص عن عاصم بضم الفاء من غير همز، وقرأ الآخرون بضم الفاء مهموزًا، وكلها لغات صحيحة، ومعناه المثل، أي هو أحد. وقيل هو التقديم والتأخير، مجازه ولم يكن له أحدًا كفوًا أي مثلا. قال مقاتل قال مشركو العرب الملائكة بنات الله، وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، فأكذبهم الله ونفى عن ذاته الولادة والمثل.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، أخبرنا أبو الزناد، عن الأعرج ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " قال الله تعالى كذَّبني ابنُ آدم ولم يكن له ذلك، وشَتَمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إيايَ فقولهُ لن يعيدني كما بدأني، وليس أولُ الخلق بأهونَ عليّ من إعادته، وأما شتمُهُ إياي فقوله اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد ".

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أن رجلا سمع رجلا يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ويرددها، فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده إنها لتَعْدِل ثُلُثَ القرآن".

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن الأصفهاني، أخبرنا عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس، حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا شعبة عن قتادة سمعت سالم بن أبي الجعد يحدث عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أيعجز أحدكم أن يقرأ ثُلثَ القرآن في ليلةٍ؟ قلت يا رسول الله ومن يطيق ذلك؟ قال اقرأوا قل هو الله أحد".

واخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك، عن عبيد الله بن عبد الرحمن عن عبيد بن جبير مولى زيد بن الخطاب أنه قال سمعت أبا هريرة يقول أقبلت، مع رسول الله فسمع رجلا يقرأ "قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد"، فقال رسول الله "وجبْت"، فسألته ماذا يا رسول الله؟ فقال "الجنة". فقال أبو هريرة فأردت أن أذهب إلى الرجل فأبشره، ثم فرقت أن يفوتني الغداء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآثرت الغداء، ثم ذهبت إلى الرجل فوجدته قد ذهب.

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أخبرنا حاجب ابن أحمد الطوسي، حدثنا عبد الرحيم بن منيب، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا المبارك بن فضالة عن ثابت، عن أنس قال قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني أحبُّ هذه السورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ  قال "حبُّكَ إياها أدخلَك الجنة".
اقرأ المزيد >>

السبت، 9 أبريل 2011

وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (الأنعام 38، تفسير الطبري، مجلد 5، صفحة 77)




قال أبو جعفر يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قل لهؤلاء المعرضين عنك، المكذبين بآيات الله أيها القوم، لا تحسبُنَّ الله غافلا عما تعملون، أو أنه غير مجازيكم على ما تكسبون! وكيف يغفل عن أعمالكم، أو يترك مجازاتكم عليها، وهو غير غافل عن عمل شيء دبَّ على الأرض صغيرٍ أو كبيرٍ، ولا عمل طائر طار بجناحيه في الهواء، بل جعل ذلك كله أجناسًا مجنَّسة وأصنافًا مصنفة، تعرف كما تعرفون، وتتصرف فيما سُخِّرت له كما تتصرفون، ومحفوظ عليها ما عملت من عمل لها وعليها، ومُثْبَت كل ذلك من أعمالها في أم الكتاب، ثم إنه تعالى ذكره مميتها ثم منشرها ومجازيها يوم القيامة جزاءَ أعمالها. يقول فالرب الذي لم يضيِّع حفظَ أعمال البهائم والدوابّ في الأرض، والطير في الهواء، حتى حفظ عليها حركاتها وأفعالها، وأثبت ذلك منها في أم الكتاب، وحشرها ثم جازاها على ما سلف منها في دار البلاء، أحرى أن لا يُضيع أعمالكم، ولا يُفَرِّط في حفظ أفعالكم التي تجترحونها، أيها الناس، حتى يحشركم فيجازيكم على جميعها، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا، إذ كان قد خصكم من نعمه، وبسط عليكم من فضله، ما لم يعمَّ به غيركم في الدنيا، وكنتم بشكره أحقَّ، وبمعرفة واجبه عليكم أولى، لما أعطاكم من العقل الذي به بين الأشياء تميِّزون، والفهم الذي لم يعطه البهائم والطيرَ، الذي به بين مصالحكم ومضارِّكم تفرِّقون.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال ،حدثنا أبو عاصم، قال ،حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله ( أمم أمثالكم ) ، أصناف مصنفة تُعرَف بأسمائها، حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله، حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم )، يقول الطير أمة، والإنس أمة، والجن أمة. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله "( إلا أمم أمثالكم )، يقول إلا خلق أمثالكم. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنى حجاج، عن ابن جريج في قوله ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم )، قال الذرّة فما فوقها من ألوان ما خلق الله من الدواب.

وأما قوله ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ، فإن معناه ما ضيعنا إثبات شيء منه، كالذي:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ( ما فرطنا في الكتاب من شيء )، ما تركنا شيئًا إلا قد كتبناه في أم الكتاب. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله  ( ما فرطنا في الكتاب من شيء )، قال  لم نُغفِل الكتاب، ما من شيء إلا وهو في الكتاب. وحدثني به يونس مرة أخرى، قال في قوله ( ما فرطنا في الكتاب من شيء )، قال كلهم مكتوبٌ في أم الكتاب.

وأما قوله ( ثم إلى ربهم يحشرون ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في معنى ( حشرهم )، الذي عناه الله تعالى ذكره في هذا الموضع. فقال بعضهم " حشرها "، موتها.

ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن سعيد، عن مسروق، عن عكرمة، عن ابن عباس ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم )، قال ابن عباس موت البهائم حشرها. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( ثم إلى ربهم يحشرون ) ، قال يعني بالحشر، الموت. حدثنا عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله  ( ثم إلى ربهم يحشرون ) ، يعني بالحشر الموت. وقال آخرون " الحشر " في هذا الموضع، يعني به الجمعُ لبعث الساعة وقيام القيامة.

ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة في قوله ( إلا أمم أمثالكم ما فرَّطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون )، قال يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة، البهائمَ والدوابَّ والطيرَ وكل شيء، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذَ للجمَّاء من القَرْناء، ثم يقول " كوني ترابًا "، فلذلك يقول الكافر ( يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ) (سورة النبأ 40) .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الأعمش، عمن ذكره، عن أبي ذر قال بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ انتطحت عنـزان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتدرون فيما انتطحتا؟ قالوا لا ندري! قال  لكن الله يدري، وسيقضي بينهما".

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن سليم قال، حدثنا فطر بن خليفة، عن منذر الثوري، عن أبي ذر قال انتطحت شاتان عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي يا أبا ذَرّ، أتدري فيم انتطحتا "؟ قلت لا! قال لكن الله يدري وسيقضي بينهما! قال أبو ذر لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلِّب طائرٌ جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علمًا.

قال أبو جعفر والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال إن الله تعالى ذكره أخبر أنّ كل دابة وطائر محشورٌ إليه. وجائز أن يكون معنيًّا بذلك حشر القيامة، وجائز أن يكون معنيًّا به حشر الموت، وجائز أن يكون معنيًّا به الحشران جميعًا ، ولا دلالة في ظاهر التنـزيل، ولا في خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أيُّ ذلك المراد بقوله ( ثم إلى ربهم يحشرون ) ، إذ كان " الحشر "، في كلام العرب الجمع، ومن ذلك قول الله تعالى ذكره ( وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) [سورة ص 19] ، يعني مجموعة. فإذ كان الجمع هو " الحشر "، وكان الله تعالى ذكره جامعًا خلقه إليه يوم القيامة، وجامعهم بالموت، كان أصوبُ القول في ذلك أن يُعَمَّ بمعنى الآية ما عمه الله بظاهرها، وأن يقال كل دابة وكل طائر محشورٌ إلى الله بعد الفناء وبعد بعث القيامة، إذ كان الله تعالى ذكره قد عم بقوله ( ثم إلى ربهم يحشرون )، ولم يخصص به حشرًا دون حشر.

فإن قال قائل فما وجهُ قوله ( ولا طائر يطير بجناحيه ) ؟ وهل يطير الطائر إلا بجناحيه؟ فما في الخبر عن طيرانه بالجناحين من الفائدة؟

قيل  قد قدمنا القول فيما مضى أن الله تعالى ذكره أنـزل هذا الكتاب بلسان قوم، وبلغاتهم وما يتعارفونه بينهم ويستعملونه في منطقهم خاطبهم. فإذ كان من كلامهم إذا أرادوا المبالغة في الكلام أن يقولوا " كلمت فلانًا بفمي"، و " مشيت إليه برجلي"، و " ضربته بيدي"، خاطبهم تعالى بنظير ما يتعارفونه في كلامهم، ويستعملونه في خطابهم.
اقرأ المزيد >>

الخميس، 7 أبريل 2011

لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (النساء 115،114، تفسير ابن كثير، مجلد 8، صفحة 491)



يقول تعالى ( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ ) يعني كلام الناس ( إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) أي إلا نجوى من قال ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مَرْدُويه حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم، حدثنا محمد بن سليمان بن الحارث، حدثنا محمد بن يزيد بن خُنَيس قال دخلنا على سفيان الثوري نعوده -وأومأ إلى دار العطارين - فدخل عليه سعيد بن حسان المخزومي فقال له سفيان الثوري الحديث الذي كنت حدثتني به عن أم صالح اردُدْه علي. فقال حدثتني أم صالح، عن صَفية بنت شَيْبة، عن أم حَبيبَة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كلام ابن آدم كله عليه لا له ما خلا أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر (أو ذكر الله عز وجل"، قال سفيان فناشدته ) فقال محمد بن يزيد ما أشد هذا الحديث؟ فقال سفيان وما شدة هذا الحديث؟ إنما جاءت به امرأة عن امرأة، هذا في كتاب الله الذي أرسل به نبيكم صلى الله عليه وسلم أو ما سمعت الله يقول في كتابه ( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) فهو هذا بعينه، أو ما سمعت الله يقول ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ) (النبأ 38) فهو هذا بعينه، أو ما سمعت الله يقول في كتابه ( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) (سورة العصر) ، فهو هذا بعينه .

وقد روى هذا الحديث الترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن يزيد بن خُنَيس عن سعيد بن حسان، به. ولم يذكرا أقوال الثوري إلى آخرها، ثم قال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن خُنَيس .

وقال الإمام أحمد حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، حدثنا صالح بن كَيْسان، حدثنا محمد بن مسلم بن عُبَيد الله بن شهاب أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره، أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فَيَنْمِي خيرًا - أو يقول خيرًا" وقالت لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها. قال وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد رواه الجماعة، سوى ابن ماجه، من طرق، عن الزهري، به نحوه .

قال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مُرة عن سالم بن أبي الجعد، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة، والصيام والصدقة؟" قالوا بلى. قال "إصلاح ذات البين" قال "وفساد ذات البين هي الحالقة". ورواه أبو داود والترمذي، من حديث أبي معاوية، وقال الترمذي حسن صحيح .

وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا سُرَيج بن يونس، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، حدثنا أبي، عن حميد، عن أنس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي أيوب "ألا أدلك على تجارة؟" قال بلى قال "تسعى في صلح بين الناس إذا تفاسدوا، وتُقَارب بينهم إذا تباعدوا" ثم قال البزار وعبد الرحمن بن عبد الله العُمَري لَيّن، وقد حدث بأحاديث لم يتابع عليها .

ولهذا قال ( وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ ) أي مخلصا في ذلك محتسبا ثواب ذلك عند الله عز وجل ( فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) أي ثوابًا كثيرًا واسعًا.

وقوله ( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى ) أي ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فصار في شق والشرع في شق، وذلك عن عَمْد منه بعدما ظهر له الحق وتبين له واتضح له. وقوله ( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ) هذا ملازم للصفة الأولى، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع، وقد تكون لما أجمعت عليه الأمة المحمدية، فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقًا، فإنه قد ضُمِنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ، تشريفًا لهم وتعظيما لنبيهم  (صلى الله عليه وسلم). وقد وردت في ذلك أحاديث صحيحة كثيرة، ومن العلماء من ادعى تواتر معناها، والذي عول عليه الشافعي، رحمه الله، في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تَحْرُم مخالفته هذه الآية الكريمة، بعد التروي والفكر الطويل. وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها، وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك واستبعد الدلالة منها على ذلك .

ولهذا توعد تعالى على ذلك بقوله ( نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) أي إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك، بأن نحسنها في صدره ونـزينها له -استدراجًا له -كما قال تعالى ( فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) (القلم 44). وقال تعالى ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (الصف 5). وقوله ( وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (الأنعام 110).

وجعل النار مصيره في الآخرة، لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة، كما قال تعالى ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ) (الصافات 22، 23). وقال ( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا )( الكهف53) .
اقرأ المزيد >>

الثلاثاء، 5 أبريل 2011

وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (آل عمران من 176 إلى 180، تفسير ابن كثير، مجلد 8، صفحة 267)



يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ( وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ) وذلك من شدة حرصه على الناس كان يحزنه مُبَادَرَة الكفار إلى المخالفة والعناد والشقاق، فقال تعالى ولا يحزنك ذلك ( إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ ) أي حكمته فيهم أنه يريد بمشيئته وقدرته ألا يجعل لهم نصيبا في الآخرة ( وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ).

ثم قال تعالى مخبرا عن ذلك إخبارا مقررًا ( إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإيمَانِ ) أي استبدلوا هذا بهذا ( لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ) أي ولكن يضرون أنفسهم ( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ).

ثم قال تعالى ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) كقوله تعالى (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ) (المؤمنون55 ، 56)، وكقوله (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) (القلم44)، وكقوله (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة55).

ثم قال تعالى ( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) أي لا بُد أن يعقد سببا من المحنة، يظهر فيه وليه، ويفتضح فيه عدوه. يُعرف به المؤمن الصابر، والمنافق الفاجر. يعني بذلك يوم أحد الذي امتحن به المؤمنين، فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وطاعتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهتك به ستر المنافقين، فظهر مخالفتهم ونُكُولهم عن الجهاد وخيانتهم لله ولرسوله (صلى الله عليه وسلم) ولهذا قال ( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ).

قال مجاهد ميّز بينهم يوم أحد. وقال قتادة مَيَّزَ بينهم بالجهاد والهجرة. وقال السُّدِّي قالوا إنْ كان محمد صادقا فَلْيُخْبِرنا عَمّن يؤمن به منا ومن يَكْفُر. فأنزل الله ( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) أي حتى يُخْرج المؤمن من الكافر. روى ذلك كلَّه ابنُ جرير

ثم قال ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ) أي أنتم لا تعلمون غيبَ الله في خلقه حتى يُميز لكم المؤمن من المنافق، لولا ما يعقده من الأسباب الكاشفة عن ذلك.

ثم قال ( وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ) كقوله (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) (الجن26، 27) .

ثم قال ( فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ) أي أطيعوا الله ورسوله واتبعوه فيما شرع لكم ( وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ).

وقوله ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ ) أي لا يحسبن البخيل أن جمعه المال ينفعه، بل هو مَضّرة عليه في دينه -وربما كان- في دنياه.

ثم أخبر بمآل أمر ماله يوم القيامة فقال ( سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) قال البخاري حدثنا عبد الله بن منير، سمع أبا النضر، حدثنا عبد الرحمن - هو ابن عبد الله بن دينار-عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هُريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ له شُجَاعًا أقرعَ له زبيبتان، يُطَوّقُه يوم القيامة، يأخذ بلِهْزِمَتَيْه -يعني بشدقَيْه-يقول أنا مَالُكَ، أنا كَنزكَ" ثم تلا هذه الآية ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ ) إلى آخر الآية.

تفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه، وقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق الليث بن سعد، عن محمد بن عَجْلان، عن القَعْقاع بن حكيم، عن أبي صالح، به .

حديث آخر قال الإمام أحمد حدثنا حُجَين بن المثنى، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمَر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن الَّذِي لا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ يُمَثِّلُ اللهُ لَهُ مَالَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبتَان، ثم يُلْزِمهُ يطَوّقه، يَقُول أنَا كَنزكَ، أنَا كَنزكَ".

وهكذا رواه النسائي عن الفضل بن سهل، عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، به ثم قال النسائي وروايةُ عبد العزيز، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أثبتُ من رواية عبد الرحمن، عن أبيه عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبى هريرة.

قلت ولا منافاة بينهما فقد يكون عند عبد الله بن دينار من الوجهين، والله أعلم. وقد ساقه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويَه من غير وجه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. ومن حديث محمد بن أبي حميد، عن زياد الخطمي، عن أبي هريرة، به.

حديث آخر قال الإمام أحمد حدثنا سفيان، عن جامع، عن أبي وائل، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال " مَا مِنْ عَبْدٍ لا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إلا جُعِلَ لَهُ شُجَاعٌ أقْرَعُ يَتْبَعُهُ، يَفِرّ منه وهو يَتْبَعُه فَيقُولُ أنَا كَنْ ". ثُمَّ قرأ عبد الله مصداقه من كتاب الله ( سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة، من حديث سفيان بن عيينة، عن جامع بن أبي راشد، زاد الترمذي وعبد الملك بن أعين، كلاهما عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود، به. ثم قال الترمذي حسن صحيح. وقد رواه الحاكم في مستدركه، من حديث أبي بكر بن عياش وسفيان الثوري، كلاهما عن أبي إسحاق السَّبيعي، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، به ورواه ابن جرير من غير وجه، عن ابن مسعود، موقوفا.

حديث آخر قال الحافظ أبو يعلى حدثنا أمية بن بِسْطام، حدثنا يزيد بن زُرَيْع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال " مَنْ تَرَكَ بَعْدَهُ كَنزا مُثِّلَ لَهُ شُجُاعًا أَقْرَعَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ زَبِيبَتَان، يَتْبَعُه ويَقُولُ مَنْ أَنْتَ؟ وَيْلَكَ. فيقُولُ أنَا كَنزكَ الَّذِي خَلَّفتَ بَعْدَكَ فَلا يَزَالُ يَتْبَعُه حَتَّى يُلْقِمَه يَدَه فَيقْضِمَها، ثم يَتْبَعه سَائِر جَسَ" . إسناده جيد قوي ولم يخرجوه اضغط هنا .

وقد رواه الطبراني عن جرير بن عبد الله البَجَلي اضغط هنا ورواه ابن جرير وابن مَرْدُويه من حديث بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يَأْتِي الرَّجُلُ مَولاهُ فيَسْأله من فَضْلِ مَالِهِ عِنْدَهُ، فَيَمْنَعهُ إيَّاهُ، إلا دُعِي لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجاعٌ يَتَلَمَّظُ فَضْلَهُ الَّذِي مَنَعَ". لفظ ابن جرير .

وقال ابن جرير حدثنا ابن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود، عن أبي قَزَعة، عن رجل، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "مَا مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِي ذَا رَحِمه، فيَسْأله من فَضْلٍ جَعَلَهُ اللهُ عِنْدَهُ، فَيَبْخَلُ بِهِ عَلَيْه، إلا أخُرِج له من جَهَنَّم شُجَاعٌ يَتَلَمَّظ، حتى يُطوّقه".

ثم رواه من طريق أخرى عن أبي قزَعَة -واسمه حُجَيْر بن بَيان-عن أبي مالك العبدي موقوفا. ورواه من وجه آخر عن أبي قَزَعَة مرسلا .

وقال العَوْفي عن ابن عباس نزلت في أهل الكتاب الذين بَخِلُوا بما في أيديهم من الكتب المنزلة أن يبينوها. رواه ابن جرير. والصحيح الأول، وإن دخل هذا في معناه. وقد يقال (إن) هذا أولى بالدخول، والله أعلم.

وقوله ( وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي فأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، فإن الأمور كُلَّها مرجعها إلى الله عز وجل. فقدموا لكم من أموالكم ما ينفعكم يوم معادكم ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) أي بِنياتِكم وضمائركم.
اقرأ المزيد >>