الثلاثاء، 31 مايو 2011

إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (غافر 60،59، تفسير الطبري، مجلد 20، صفحة 189)






يقول تعالى ذكره إن الساعة التي يحيي الله فيها الموتى للثواب والعقاب لجائية أيها الناس لا شكّ في مجيئها، يقول فأيقنوا بمجيئها، وأنكم مبعوثون من بعد مماتكم، ومجازون بأعمالكم، فتوبوا إلى ربكم ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ) يقول ولكن أكثر قريش لا يصدّقون بمجيئها.

وقوله ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) يقول تعالى ذكره ويقول ربكم أيها الناس لكم ادعوني يقول اعبدوني وأخلصوا لي العبادة دون من تعبدون من دوني من الأوثان والأصنام وغير ذلك ( أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) يقول أُجِبْ دعاءكم فأعفو عنكم وأرحمكم.

وعن ابن عباس، قوله ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) يقول وحَّدوني أغفر لكم.

وعن النعمان بن بشير، قال قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم " الدُّعاءُ هُوَ العِبادَةُ " وقرأ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ).

وعن النعمان بن بشير، قال سمعت النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول " الدُّعاءُ هُوَ العبادَةُ " ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) ... الآية.

وعن النعمان بن بشير قال قال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم " إنَّ الدُّعاءَ هُوَ العِبَادَةُ " ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).

وعن النعمان بن بشير، عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بمثله.

وعن النعمان بن بشير، قال قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم " إنَّ عِبَادَتي دُعائي" ثُم تلا هذه الآية " ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ) قال " عَنْ دُعائي".

وعن ثابت، قال قلت لأنس يا أبا حمزة أبلغك أن الدعاء نصف العبادة؟ قال لا بل هو العبادة كلها.

وعن النعمان بن بشير، قال قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم " الدُّعاءُ هُوَ العِبادَةُ، ثم قرأ هذه الآية ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي )".

وعن الأشجعي، قال قيل لسفيان ادع الله، قال إن ترك الذنوب هو الدعاء.

وقوله ( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ) يقول إن الذين يتعظمون عن إفرادي بالعبادة، وإفراد الألوهة لي ( سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) بمعنى صاغرين. وقد دللنا فيما مضى قبل على معنى الدخر بما أغني عن إعادته في هذا الموضع.

وقد قيل إن معنى قوله ( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي )  إن الذين يستكبرون عن دعائي.

وعن السديّ( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ) قال عن دعائي.

وعن السديّ( دَاخِرِينَ ) قال صاغرين.

اقرأ المزيد >>

الأحد، 29 مايو 2011

لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (النور 63، تفسير ابن كثير، مجلد 5، صفحة 96)






قيل كانوا يقولون يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله عز وجل، عن ذلك، إعظامًا لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه قال فقولوا يا رسول الله، يا نبي الله. وقال قتادة أمر الله أن يهاب نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يُبَجَّل وأن يعظَّم وأن يسود.

وقيل في قوله ( لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ) يقول لا تُسَمّوه إذا دَعَوتموه يا محمد، ولا تقولوا يا بن عبد الله، ولكن شَرّفوه فقولوا يا نبي الله، يا رسول الله .

وقال مالك، عن زيد بن أسلم في قوله ( لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ) قال أمرهم الله أن يشرِّفوه. هذا قول. وهو الظاهر من السياق، كما قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا ) (البقرة 104) إلى اخر الآية، وقوله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) إلى قوله ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ) (الحجرات 2-5). فهذا كله من باب الأدب في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم والكلام معه وعنده كما أمروا بتقديم الصدقة قبل مناجاته.

والقول الثاني في ذلك أن المعنى في ( لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ) أي لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره، فإن دعاءه مستجاب، فاحذروا أن يدعو عليكم فتهلكوا.

وقوله ( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا ) قال السُّدِّي كانوا إذا كانوا معه في جماعة، لاذ بعضهم ببعض، حتى يتغيبوا عنه، فلا يراهم.

وقال قتادة في قوله ( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا ) ، يعني لواذا عن نبي الله وعن كتابه. وقال سفيان ( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا ) قال من الصف. وقال مجاهد في الآية ( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا ) قال خلافًا.

وقوله ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) أي عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قُبِل، وما خالفه فهو مَرْدُود على قائله وفاعله، كائنا ما كان، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "من عمل عَمَلا ليس عليه أمرنا فهو رَدّ".

أي فليحذر وليخْشَ من خالف شريعة الرسول باطنًا أو ظاهرًا ( أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ) أي في قلوبهم، من كفر أو نفاق أو بدعة، ( أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أي في الدنيا، بقتل، أو حَد، أو حبس، أو نحو ذلك.

عن أبي هُرَيرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حولها . جعل الفراش وهذه الدواب اللاتي يقعن في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه ويتقحَّمن فيها" . قال "فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزِكم عن النار هلم عن النار، فتغلبوني وتقتحمون فيها".

اقرأ المزيد >>

الجمعة، 27 مايو 2011

وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (يونس 11، تفسير الطبري، مجلد 10، صفحة 564)





قال أبو جعفر، يقول تعالى ذكره ولو يعجل الله للناس إجابةَ دعائهم في الشرّ، وذلك فيما عليهم مضرّة في نفس أو مال، ( استعجالهم بالخير ) يقول كاستعجاله لهم في الخير بالإجابة إذا دعوه به، (لقضي إليهم أجلهم) يقول لهلكوا، وعُجِّل لهم الموت، وهو الأجل.

وعني بقوله (لقضي) لفرغ إليهم من أجلهم، ونُبذ إليهم، كما قال أبو ذؤيب:

وَعَلَيْهِمَــا مَسْــرُودَتَانِ قَضَاهُمَــا           دَاوُدُ، أَوْ صَنَــعُ السَّــوَابِغِ تُبَّــعُ

( فنذر الذين لا يرجون لقاءنا ) يقول فندع الذين لا يخافون عقابنا ، ولا يوقنون بالبعث ولا بالنشور (في طغيانهم)، يقول في تمرّدهم وعتوّهم، (يعمهون) يعني يترددون.

وإنما أخبر جل ثناؤه عن هؤلاء الكفرة بالبعث بما أخبر به عنهم ، من طغيانهم وترددهم فيه عند تعجيله إجابة دعائهم في الشرّ لو استجاب لهم ، أن ذلك كان يدعوهم إلى التقرُّب إلى الوثن الذي يشرك به أحدهم، أو يضيف ذلك إلى أنه من فعله.

عن مجاهد، في قوله (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) ، قال قولُ الإنسان إذا غضب لولده وماله " لا باركَ الله فيه ولعنه ".

وعن مجاهد (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) ، قال قولُ الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه " اللهم لا تبارك فيه والعنه" فلو يعجّل الله الاستجابة لهم في ذلك، كما يستجاب في الخير لأهلكهم.

وعن مجاهد، في قوله (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) ، قال قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه " اللهم لا تبارك فيه والعنه " (لقضي إليهم أجلهم) قال لأهلك من دعا عليه ولأماته.

وعن مجاهد، قوله (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) ، قال قول الرجل لولده إذا غضب عليه أو ماله " اللهم لا تبارك فيه والعنه " قال الله (لقضي إليهم أجلهم) ، قال لأهلك من دعا عليه ولأماته. قال (فنذر الذين لا يرجون لقاءنا) ، قال يقول لا نهلك أهل الشرك، ولكن نذرهم في طغيانهم يعمهون.

وعن قتادة قوله (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) ، قال هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له.

قال ابن زيد في قوله (لقضي إليهم أجلهم) ، قال لأهلكناهم. وقرأ ( مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ) (سورة فاطر 45 )، قال يهلكهم كلهم.

ونصب قوله  (استعجالهم) ، بوقوع (يعجل) عليه، كقول القائل " قمت اليوم قيامَك " بمعنى  قمت كقيامك، وليس بمصدّرٍ من (يعجل)، لأنه لو كان مصدّرًا لم يحسن دخول " الكاف "، أعني كاف التشبيه فيه.

واختلفت القراء في قراءة قوله ( لقضي إليهم أجلهم )، فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والعراق ( لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ )، على وجه ما لم يسمَّ فاعله ، بضم القاف من " قضي"، ورفع " الأجل"، وقرأ عامة أهل الشأم ( لَقَضَى إِلَيْهِمْ أَجَلَهُمْ )، بمعنى لقضى الله إليهم أجلهم، قال أبو جعفر وهما قراءتان متفقتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، غير أني أقرؤه على وجه ما لم يسمَّ فاعله، لأن عليه أكثر القراء.
اقرأ المزيد >>

الأربعاء، 25 مايو 2011

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ * لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ( المائدة 77-81، تفسير البغوي، مجلد 1، صفحة 182)






(  قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ) أي لا تتجاوزوا الحد، والغلو والتقصير كل واحد منهما مذموم في الدين، وقوله (  غَيْرَ الْحَقِّ ) أي في دينكم المخالف للحق، وذلك أنهم خالفوا الحق في دينهم، ثم غلوا فيه بالإصرار عليه، ( وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ ) والأهواء جمع الهوى وهو ما تدعو إليه شهوة النفس ( قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ ) يعني رؤساء الضلالة من فريقي اليهود والنصارى، والخطاب للذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم نهوا عن اتباع أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم ( وَأَضَلُّوا كَثِيرًا ) يعني من اتبعهم على أهوائهم ( وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ) عن قصد الطريق، أي بالإضلال، فالضلال الأول من الضلالة، والثاني بإضلال من اتبعهم.

قوله تعالى ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ ) يعني أهل أيلة لما اعتدوا في السبت، وقال داود عليه السلام اللهم ألعنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة، ( وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) أي على لسان عيسى عليه السلام، يعني كفار أصحاب المائدة، لما لم يؤمنوا، قال عيسى اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا خنازير، ( ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ  ).

( كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ) أي لا ينهى بعضهم بعضا ( لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ).

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل إذا عمل العامل منهم الخطيئة نهاه الناهي تعذيرا فإذا كان من الغد جالسه وآكله وشاربه كأنه لم يره على الخطيئة بالأمس، فلما رأى الله تبارك وتعالى ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض، وجعل منهم القردة والخنازير، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم عليهما السلام ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم ".

قوله تعالى ( تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ ) قيل من اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه، ( يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) مشركي مكة حين خرجوا إليهم يجيشون على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس ومجاهد والحسن منهم يعني من المنافقين يتولون اليهود، ( لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ ) بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في الآخرة، ( أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ) غضب الله عليهم، ( وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ).

(  وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ ) محمد صلى الله عليه وسلم، ( وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِ ) يعني القرآن، ( مَا اتَّخَذُوهُمْ ) يعني الكفار، ( أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) أي خارجون عن أمر الله سبحانه وتعالى.
اقرأ المزيد >>

الاثنين، 23 مايو 2011

سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا (المعارج 1 – 7، تفسير ابن كثير، مجلد 7، صفحة 415)





( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ) فيه تضمين دل عليه حرف "الباء"، كأنه مُقَدر يستعجل سائل بعذاب واقع. كقوله ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ) أي وعذابه واقع لا محالة.

قال النسائي حدثنا بشر بن خالد، حدثنا أبو أسامة، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن المِنْهَال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ) قال النضر بن الحارث بن كَلَدَة. وقال العوفي، عن ابن عباس ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ) قال ذلك سؤال الكفار عن عذاب الله وهو واقع.

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله تعالى ( سَأَلَ سَائِلٌ ) دعا داع بعذاب واقع يقع في الآخرة، قال وهو قولهم ( اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (الأنفال 32).

وقال ابن زيد وغيره ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ) أي واد في جهنم، يسيل يوم القيامة بالعذاب. وهذا القول ضعيف، بعيد عن المراد. والصحيح الأول لدلالة السياق عليه.

وقوله ( وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ ) أي مُرصد مُعَدّ للكافرين.

وقال ابن عباس ( وَاقِعٍ ) جاء ( لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ) أي لا دافع له إذا أراد الله كونه؛ ولهذا قال ( مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ) قال الثوري، عن الأعمش، عن رجل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله ( ذِي الْمَعَارِجِ ) قال ذو الدرجات. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ( ذِي الْمَعَارِجِ ) يعني العلو والفواضل. وقال مجاهد ( ذِي الْمَعَارِجِ ) معارج السماء. وقال قتادة ذي الفواضل والنعم.

وقوله ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ) قال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة ( تَعْرُجُ ) تصعد. وأما الروح فقال أبو صالح هم خلق من خلق الله. يشبهون الناس، وليسوا أناسا.

قلت (ابن كثير) ويحتمل أن يكون المراد به جبريل، ويكون من باب عطف الخاص على العام. ويحتمل أن يكون اسم جنس لأرواح بني آدم، فإنها إذا قبضت يُصعد بها إلى السماء، كما دل عليه حديث البراء. وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث المِنْهَال، عن زاذان، عن البراء مرفوعًا -الحديث بطوله في قبض الروح الطيبة-قال فيه "فلا يزال يصعد بها من سماء إلى سماء حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة". والله أعلم بصحته، فقد تُكلم في بعض رواته، ولكنه مشهور، وله شاهد في حديث أبي هريرة فيما تقدم من رواية الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة، من طريق ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يسار، عنه وهذا إسناد رجاله على شرط الجماعة، وقد بسطنا لفظه عند قوله تعالى يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (إبراهيم 27) .

وقوله ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) فيه أربعة أقوال:

أحدهما أن المراد بذلك مسافة ما بين العرش العظيم إلى أسفل السافلين، وهو قرار الأرض السابعة، وذلك مسيرة خمسين ألف سنة، هذا ارتفاع العرش عن المركز الذي في وسط الأرض السابعة. وذلك اتساع العرش من قطر إلى قطر مسيرة خمسين ألف سنة، وأنه من ياقوتة حمراء، كما ذكره ابن أبي شيبة في كتاب صفة العرش. وقد قال ابن أبي حاتم عند هذه الآية حدثنا أحمد بن سلمة، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا حَكَّام، عن عُمَر بن معروف، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس قوله ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) قال منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السماوات مقدار خمسين ألف سنة ويوم كان مقداره ألف سنة. يعني بذلك تَنـزل الأمر من السماء إلى الأرض، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد فذلك مقداره ألف سنة؛ لأن ما بين السماء والأرض مقدار مسيرة خمسمائة سنة. وقد رواه ابن جرير عن ابن حميد، عن حَكَّام بن سلم، عن عُمَر بن معروف، عن ليث، عن مجاهد قوله، لم يذكر ابن عباس.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطُّنافِسيّ، حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا نوح المؤدب، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عباس قال غلظ كل أرض خمسمائة عام، وبين كل أرض إلى أرض خمسمائة عام، فذلك سبعة آلاف عام. وغلظ كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء إلى السماء خمسمائة عام، فذلك أربعة عشر ألف عام، وبين السماء السابعة وبين العرش مسيرة ستة وثلاثين ألف عام، فذلك قوله ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ )

القول الثاني أن المراد بذلك مدة بقاء الدنيا منذ خلق الله هذا العالم إلى قيام الساعة، قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زُرْعَة، أخبرنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا ابن أبي زائدة، عن ابن جريج، عن مجاهد ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) قال الدنيا عمرها خمسون ألف سنة. وذلك عمرها يوم سماها الله تعالى يوم، ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ ) قال اليوم الدنيا.

وقال عبد الرزاق أخبرنا مَعْمَر، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد -وعن الحكم بن أبان، عن عكرمة ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) قال الدنيا من أولها إلى آخرها مقدار خمسين ألف سنة، لا يدري أحدٌ كم مضى، ولا كم بقي إلا الله، عز وجل .

القول الثالث أنه اليوم الفاصل بين الدنيا والآخرة، وهو قول غريب جدًا. قال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا بُهلول بن المورق حدثنا موسى بن عبيدة، أخبرني محمد بن كعب ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) قال هو يوم الفصل بين الدنيا والآخرة.

القول الرابع أن المراد بذلك يوم القيامة، قال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن سِمَاك، عن عكرمة، عن ابن عباس ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) قال يوم القيامة. هذا وإسناد صحيح. ورواه الثوري عن سماك بن حرب، عن عكرمة ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) يوم القيامة. وكذا قال الضحاك، وابن زيد.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) قال فهذا يوم القيامة، جعله الله تعالى على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة.

وقد وردت أحاديث في معنى ذلك، قال الإمام أحمد حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا دَرّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) ما أطول هذا اليوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده، إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا".

ورواه ابن جرير، عن يونس، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن دراج، به إلا أن دَرّاجا وشيخه ضعيفان، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي عمرو الغُداني قال كنت عند أبي هُرَيرة فمر رجل من بني عامر بن صعصعة، فقيل له هذا أكثر عامري مالا. فقال أبو هريرة ردوه فقال نبئت أنك ذو مال كثير؟ فقال العامري أي والله، إن لي لمائة حُمْرًا و مائة أدمًا، حتى عد من ألوان الإبل، وأفنان الرقيق، ورباط الخيل فقال أبو هريرة إياك وأخفاف الإبل وأظلافَ النعم -يُرَدّد ذلك عليه، حتى جعل لونُ العامري يتغير-فقال ما ذاك يا أبا هُرَيرة؟ قال سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من كانت له إبلٌ لا يعطي حقها في نجدتها ورِسْلها -قلنا يا رسول الله ما نجدتُها ورِسْلُها؟ قال "في عُسرها ويسرها-" فإنها تأتي يوم القيامة كأغذّ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره، حتى يبطح لها بقاع قَرقَر، فتطؤه بأخفافها، فإذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله، وإذا كانت له بقر لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره ثم يبطح لها بقاع قَرقَر فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها، وتنطحه كل ذات قرن بقرنها، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله. وإذا كانت له غنم لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأسمنه وآشره، حتى يبطح لها بقاع قَرقَر، فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها وتنطحه كل ذات قرن بقرنها، ليس فيها عَقصاء ولا عضباء، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس، فيرى سبيله". قال العامري وما حق الإبل يا أبا هريرة؟ قال أن تعطي الكريمة، وتمنح الغَزيرَة، وتفقر الظهر، وتَسقيَ اللبن وتُطرقَ الفحل. وقد رواه أبو داود من حديث شعبة، والنسائي من حديث سعيد بن أبي عَرُوبة، كلاهما عن قتادة، به .

طريق أخرى لهذا الحديث قال الإمام أحمد حدثنا أبو كامل، عن سُهَيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من صاحب كنـز لا يؤدي حقه إلا جعل صفائح يحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها بجهته وجنبه وظهره، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار". وذكر بقية الحديث في الغنم والإبل كما تقدم، وفيه "الخيل الثلاثة؛ لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر" إلى آخره .

ورواه مسلم في صحيحه بتمامه منفردًا به دون البخاري، من حديث سُهَيل عن أبيه، عن أبي هُرَيرة وموضع استقصاء طرقه وألفاظه في كتاب الزكاة في "الأحكام"، والغرض من إيراده هاهنا قوله "حتى يحكم الله بين عباده، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة".

وقد روى ابن جرير عن يعقوب عن ابن عُلَيَّة وعبد الوهاب، عن أيوب، عن ابن أبي مُلَيْكة قال سأل رجل ابن عباس عن قوله ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) قال فاتهمه، فقيل له فيه، فقال ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ فقال إنما سألتك لتحدثني. قال هما يومان ذكرهما الله، الله أعلم بهما، وأكره أن أقول في كتاب الله بما لا أعلم.

وقوله ( فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا ) أي اصبر يا محمد على تكذيب قومك لك، واستعجالهم العذاب استبعادًا لوقوعه، كقوله يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ (الشورى 18) قال ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ) أي وقوع العذاب وقيام الساعة يراه الكفرة بعيد الوقوع، بمعنى مستحيل الوقوع، ( وَنَرَاهُ قَرِيبًا ) أي المؤمنون يعتقدون كونه قريبا، وإن كان له أمد لا يعلمه إلا الله، عز وجل، لكن كل ما هو آت فهو قريب وواقع لا محالة.
اقرأ المزيد >>

السبت، 21 مايو 2011

ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (النحل 125، تفسير ابن كثير، مجلد 4، صفحة 204)





يقول تعالى آمرًا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يدعو الخلق إلى الله ( بِالْحِكْمَةِ )، قال ابن جرير وهو ما أنـزله عليه من الكتاب والسنة  وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ  أي بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس ذكرهم بها، ليحذروا بأس الله تعالى.

وقوله ( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب، كما قال ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) ( العنكبوت 46 ) فأمره تعالى بلين الجانب، كما أمر موسى وهارون، عليهما السلام، حين بعثهما إلى فرعون فقال ( فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) ( طه  44 ).

وقوله ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) أي قدم علم الشقي منهم والسعيد، وكتب ذلك عنده وفرغ منه، فادعهم إلى الله، ولا تذهب نفسك على من ضل منهم حسرات، فإنه ليس عليك هداهم إنما أنت نذير، عليك البلاغ، وعلينا الحساب، ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) ( القصص  56 )، و( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ) ( البقرة  272 ).
اقرأ المزيد >>

الخميس، 19 مايو 2011

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (الأنعام 159، تفسير ابن كثير، مجلد 2، صفحة 59)





قال مجاهد، وقتادة، والضحاك، والسُّدِّي نـزلت هذه الآية في اليهود والنصارى.

وقال العَوْفي، عن ابن عباس في قوله ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ) وذلك أن اليهود والنصارى اختلفوا قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فتفرقوا. فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أنـزل ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ) الآية.

وقال ابن جرير حدثني سعد بن عَمْرو السكوني، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد كتب إليّ عباد بن كثير، حدثني لَيْث، عن طاوس، عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن في هذه الأمَّة ( الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ) وليسوا منك، هم أهل البدع، وأهل الشبهات، وأهل الضلالة، من هذه الأمة".

لكن هذا الإسناد لا يصح، فإن عباد بن كثير متروك الحديث، ولم يختلق هذا الحديث، ولكنه وَهَم في رفعه. فإنه رواه سفيان الثوري، عن ليث - وهو ابن أبي سليم - عن طاوس، عن أبي هريرة، في قوله ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ) قال نـزلت في هذه الأمة.

وقال أبو غالب، عن أبي أمامة، في قوله ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ) قال هم الخوارج. وروى عنه مرفوعًا، ولا يصح.

وقال شعبة، عن مُجالد، عن الشعبي، عن شُرَيْح، عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ) قال "هم أصحاب البدع". وهذا رواه ابن مَرْدُوَيه، وهو غريب أيضًا ولا يصح رفعه.

والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفًا له، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف فيه ( وَكَانُوا شِيَعًا ) أي فرقًا كأهل الملل والنحل - وهي الأهواء والضلالات - فالله قد بَرَّأ رسوله مما هم فيه. وهذه الآية كقوله تعالى ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) ( الشورى 13 )، وفي الحديث "نحن معاشر الأنبياء أولاد عَلات، ديننا واحد".

فهذا هو الصراط المستقيم، وهو ما جاءت به الرسل، من عبادة الله وحده لا شريك له، والتمسك بشريعة الرسول المتأخر، وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء، الرسل بُرآء منها، كما قال ( لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ).

وقوله ( إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) كقوله ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( الحج 17 ).
اقرأ المزيد >>

الثلاثاء، 17 مايو 2011

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (المائدة 41، تفسير ابن كثير، مجلد 1، صفحة 387)





نـزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله، عز وجل ( مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ) أي أظهروا الإيمان بألسنتهم، وقلوبهم خراب خاوية منه، وهؤلاء هم المنافقون. ( وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ) أعداء الإسلام وأهله. وهؤلاء كلهم ( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ) أي يستجيبون له، منفعلون عنه ( سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ) أي يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد. وقيل المراد أنهم يتسمعون الكلام، ويُنْهُونه إلى أقوام آخرين ممن لا يحضر عندك، من أعدائك ( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ) أي يتأولونه على غير تأويله، ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ( يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ).

قيل نـزلت في أقوام من اليهود، قتلوا قتيلا وقالوا تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد، فإن أفتانا بالدية فخذوا ما قال، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه.

والصحيح أنها نـزلت في اليهوديَّيْن اللذين زنيا، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم، من الأمر برجم من أحْصن منهم، فحرفوا واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة، والتحميم والإركاب على حمار مقلوبين. فلما وقعت تلك الكائنة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا فيما بينهم تعالوا حتى نتحاكم إليه، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه، واجعلوه حجة بينكم وبين الله، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك.

وقد وردت الأحاديث بذلك، فقال مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أنه قال إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟" فقالوا نفضحهم ويُجْلَدون. قال عبد الله بن سلام كذبتم، إن فيها الرجم. فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام ارفع يدك. فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقالوا صدق يا محمد، فيها آية الرجم! فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما فرأيت الرجل يَحْني على المرأة يقيها الحجارة.

وأخرجاه وهذا لفظ البخاري. وفي لفظ له "فقال لليهود ما تصنعون بهما؟" قالوا نُسخّم وجوههما ونُخْزِيهما. قال فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (آل عمران93) فجاءوا، فقالوا لرجل منهم ممن يرضون أعورَ اقرأ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه، قال ارفع يدك. فرفع، فإذا آية الرجم تلوح، قال يا محمد، إن فيها آية الرجم، ولكنا نتكاتمه بيننا. فأمر بهما فَرُجما.

وعند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يَهُود، فقال "ما تجدون في التوراة على من زنى؟" قالوا نُسَوّد وجوههما ونُحَمّلهما، ونخالف بين وجوههما ويُطَاف بهما، قال فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قال فجاءوا بها، فقرأوها، حتى إذا مر بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ ما بين يديها وما وراءها. فقال له عبد الله بن سَلام -وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- مُرْه فلْيرفع يده. فرفع يده، فإذا تحتها آيةُ الرجم. فأمر بهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَرُجما. قال عبد الله بن عمر كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه.

وقال أبو داود حدثنا أحمد بن سعيد الهَمْداني، حدثنا ابن وَهْب، حدثنا هشام بن سعد؛ أن زيد بن أسلم حَدثه، عن ابن عمر قال أتَى نفر من اليهود، فدعَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القُفِّ فأتاهم في بيت المِدْارس، فقالوا يا أبا القاسم، إن رجلا منا زنى بامرأة، فاحكم قال ووضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة، فجلس عليها، ثم قال "ائتوني بالتوراة". فأتي بها، فنـزع الوسادة من تحته، ووضع التوراة عليها، وقال "آمنت بك وبمن أنـزلك". ثم قال "ائتوني بأعلمكم". فأتي بفتى شاب، ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع.

وقال الزهري سمعت رجلا من مُزَيْنَة، ممن يتبع العلم ويعيه، ونحن عند ابن المسيب، عن أبي هريرة قال زنى رجل من اليهود بامرأة، فقال بعضهم لبعض اذهبوا إلى هذا النبي، فإنه بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفُتْيا دون الرجم قبلناها، واحتججنا بها عند الله، قلنا فتيا نبي من أنبيائك، قال فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا يا أبا القاسم، ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا؟ فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مِدْارسهم، فقام على الباب فقال "أنْشُدكم بالله الذي أنـزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحْصنَ؟" قالوا يُحَمَّم، ويُجبَّه ويجلد. والتجبية أن يحمل الزانيان على حمار، وتقابل أقفيتهما، ويطاف بهما. قال وسكت شاب منهم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت، ألَظَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم النَّشْدة، فقال اللهم إذ نشدتنا، فإنا نجد في التوراة الرجم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "فما أول ما ارتخصتم أمر الله؟" قال زنى ذُو قرابة من ملك من ملوكنا، فأخَّر عنه الرجم، ثم زنى رجل في إثره من الناس، فأراد رجمه، فحال قومه دونه وقالوا لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه! فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "فإني أحكم بما في التوراة" فأمر بهما فرجما. قال الزهري فبلغنا أن هذه الآية نـزلت فيهم إِنَّا أَنـزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فكان النبي صلى الله عليه وسلم منهم. رواه أحمد، وأبو داود -وهذا لفظه- وابن جرير.

وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن مُرّة، عن البراء بن عازب قال مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محمَّم مجلود، فدعاهم فقال "أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟" فقالوا نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال "أنشدك بالذي أنـزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حَدَّ الزاني في كتابكم؟" فقال لا والله، ولولا أنك نَشَدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريفَ تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا تعالوا حتى نجعل شيئًا نقيمه على الشريف والوَضِيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه". قال فأمر به فرجم، قال فأنـزل الله عز وجل ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ) إلى قوله ( يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ ) يقولون ائتوا محمدًا، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، إلى قوله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ قال في اليهود إلى قوله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قال في اليهود وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ قال في الكفار كلها. انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من غير وجه، عن الأعمش، به.

وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحُمَيدي في مسنده حدثنا سفيان بن عُيَيْنَة، عن مُجالد بن سعيد الهَمْدَاني، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله قال زنى رجل من أهل فَدَك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدًا عن ذلك، فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه، تسألوه عن ذلك، قال "أرسلوا إليّ أعلم رجلين فيكم". فجاءوا برجل أعور - يقال له ابن صوريا- وآخر، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم "أنتما أعلم من قبلكما؟" . فقالا قد دعانا قومنا لذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما "أليس عندكما التوراة فيها حكم الله؟" قالا بلى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "فأنشدكم بالذي فَلَق البحر لبني إسرائيل، وظَلّل عليكم الغَمام، وأنجاكم من آل فرعون، وأنـزل المن والسَّلْوى على بني إسرائيل ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟" فقال أحدهما للآخر ما نُشدْتُ بمثله قط. قالا نجد ترداد النظر زنية والاعتناق زنية، والقبل زنية، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدئ ويعيد، كما يدخل الميل في المُكْحُلة، فقد وجب الرجم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "هو ذاك". فأمر به فَرُجمَ، فنـزلت ( فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ).

ورواه أبو داود وابن ماجه، من حديث مُجالد، به نحوه. ولفظ أبي داود عن جابر قال جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا، فقال "ائتوني بأعلم رجلين منكم". فأتوا بابني صوريا، فنشدهما "كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟" قالا نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المُكْحُلة رجما، قال "فما يمنعكم أن ترجموهما؟" قالا ذهب سلطاننا، فكرهنا القتل. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود، فجاءوا أربعة، فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما.

ثم رواه أبو داود، عن الشعبي وإبراهيم النَّخَعِي، مرسلا ولم يذكر فيه "فدعا بالشهود فشهدوا".

فهذه أحاديث دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بموافقة حكم التوراة، وليس هذا من باب الإلزام لهم بما يعتقدون صحته؛ لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة، ولكن هذا بوحي خاص من الله، عز وجل إليه بذلك، وسؤاله إياهم عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم، مما تراضوا على كتمانه وجحده، وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة فلما اعترفوا به مع عَملهم على خلافه، بأن زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، وعدولهم إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم وشهوة لموافقة آرائهم، لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به لهذا قالوا ( إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا ) والتحميم ( فَخُذُوهُ ) أي اقبلوه ( وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ) أي من قبوله واتباعه.
اقرأ المزيد >>

الأحد، 15 مايو 2011

وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (العصر، تفسير البغوي، مجلد 8، صفحة 154)




( وَالْعَصْرِ) قال ابن عباس والدهر. قيل أقسم به لأن فيه عبرة للناظر. وقيل معناه ورب العصر، وكذلك في أمثاله. قال ابن كيسان أراد بالعصر الليل والنهار، يقال لهما العصران. وقال الحسن من بعد زوال الشمس إلى غروبها. وقال قتادة آخر ساعة من ساعات النهار. وقال مقاتل أقسم بصلاة العصر وهي الصلاة الوسطى.

( إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) أي خسران ونقصان، قيل أراد به الكافر بدليل أنه استثنى المؤمنين، و "الخسران" ذهاب رأس مال الإنسان في هلاك نفسه وعمره بالمعاصي، وهما أكبر رأس ماله.

( إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فإنهم ليسوا في خسر، ( وَتَوَاصَوْا) أوصى بعضهم بعضا، ( بِالْحَق) بالقرآن، قاله الحسن وقتادة، وقال مقاتل بالإيمان والتوحيد. ( وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) على أداء الفرائض وإقامة أمر الله. وروى ابن عون عن إبراهيم قال أراد أن الإنسان إذا عُمِّر في الدنيا وهرم، لفي نقص وتراجع إلا المؤمنين، فإنهم يكتب لهم أجورهم ومحاسن أعمالهم التي كانوا يعملونها في شبابهم وصحتهم، وهي مثل قوله ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ).
اقرأ المزيد >>

الجمعة، 13 مايو 2011

سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (النور 2،1، تفسير ابن كثير، مجلد 4، صفحة 608)




يقول تعالى هذه ( سُورَةٌ أَنـزلْنَاهَا ) فيه تنبيه على الاعتناء بها ولا ينفى ما عداها.

( وفرضناها ) قال مجاهد وقتادة أيْ بيّنا الحلال والحرام والأمر والنهي، والحدود. وقال البخاري ومن قرأ "فَرَضْناها" يقول فَرَضْنا عليكم وعلى من بعدكم.

( وَأَنـزلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) أي مفسَّرات واضحَات، ( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .

ثم قال تعالى ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) هذه الآية الكريمة فيها حكم الزاني في الحد، وللعلماء فيه تفصيل ونـزاع؛ فإن الزاني لا يخلو إما أن يكون بكرًا، وهو الذي لم يتزوج، أو محصنا، وهو الذي قد وَطِئَ في نكاح صحيح، وهو حر بالغ عاقل. فأما إذا كان بكرًا لم يتزوج، فإن حدَّه مائة جلدة كما في الآية ويزاد على ذلك أن يُغرّب عاما عن بلده عند جمهور العلماء،خلافا لأبي حنيفة، رحمه الله؛ فإن عنده أن التغريبَ إلى رأي الإمام، إن شاء غَرَّب وإن شاء لم يغرِّب.

وحجة الجمهور في ذلك ما ثبت في الصحيحين، من رواية الزهري، في الأعرابيين اللذين أتيا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما يا رسول الله، إن ابني كان عَسِيفا - يعني أجيرا - على هذا فزنى بامرأته، فافتديت ابني منه بمائة شاة وَوَليدَة، فسألت أهل العلم، فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريبَ عام، وأن على امرأة هذا الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده، لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم رَدٌّ عليك، وعلى ابنك جَلْدُ مائة وتغريبُ عام. واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها". فغدا عليها فاعترفت، فرجمها. ففي هذا دلالة على تغريب الزاني مع جلد مائة إذا كان بكرا لم يتزوج، فأما إن كان محصنا فإنه يرجم.

كما قال الإمام مالك أن عمر، رضي الله عنه، قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال أما بعد، أيها الناس، فإن الله بعث محمدًا بالحق، وأنـزل عليه الكتاب، فكان فيما أنـزل عليه آية الرجم، فقرأناها وَوَعَيْناها، وَرَجمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَرَجمْنا بعده، فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل لا نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة قد أنـزلها الله، فالرجم في كتاب الله حق على من زنى، إذا أحصن، من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو الحبل، أو الاعتراف. أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك مطولا وهذا قطعة منه، فيها مقصودنا هاهنا.

وروى الإمام أحمد، أن عمر بن الخطاب خطب الناس فسمعته يقول ألا وَإنّ أناسا يقولون ما بالُ الرجم؟ في كتاب الله الجلدُ. وقد رَجَم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورَجمَنا بعده. ولولا أن يقول قائلون - أو يتكلم متكلمون - أن عمر زاد في كتاب الله ما ليس منه لأثبتها كما نـزلت. وأخرجه النسائي، من حديث عُبَيْد الله بن عبد الله، به .

وقد روى أحمد أيضًا، عن ابن عباس قال خطب عمر بن الخطاب فذكر الرجم فقال لا تُخْدَعُن عنه؛ فإنه حَدٌّ من حدود الله ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورَجمَنا بعده، ولولا أن يقول قائلون زاد عمر في كتاب الله ما ليس فيه، لكتبت في ناحية من المصحف وشهد عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وفلان وفلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورجمنا بعده. ألا وإنه سيكون من بعدكم قوم يكذبون بالرجم وبالدجال وبالشفاعة وبعذاب القبر، وبقوم يخرجون من النار بعدما امتُحِشُوا.

وروى أحمد أيضا، عن عمر بن الخطاب  إياكم أن تهَلكوا عن آية الرجم. الحديث رواه الترمذي، من حديث سعيد، عن عُمَر، وقال صحيح.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي عن محمد - هو ابن سِيرِين - قال نُبِّئتُ عن كَثِير بن الصلت قال كنا عند مروان وفينا زيد، فقال زيد كنا نقرأ "والشيخ والشيخة فارجموهما البتة". قال مروان ألا كتبتَها في المصحف؟ قال ذكرنا ذلك وفينا عمر بن الخطاب، فقال أنا أشفيكم من ذلك.قال قلنا فكيف؟ قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال فذكر كذا وكذا، وذكر الرجم، فقال يا رسول الله، أكْتِبْني آية الرجم قال "لا أستطيع الآن". هذا أو نحو ذلك. وقد رواه النسائي.

وهذه طرق كلها متعددة ودالة على أن آية الرجم كانت مكتوبة فنسخ تلاوتها، وبقي حكمها معمولا به، ولله الحمد.

وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم هذه المرأة، وهي زوجة الرجل الذي استأجر الأجير لما زَنَت مع الأجير. ورجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزًا والغامِدِيَّة. وكل هؤلاء لم يُنقَل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جَلدهم قبل الرجم. وإنما وردت الأحاديث الصِّحَاح المتعددة الطرق والألفاظ، بالاقتصار على رجمهم، وليس فيها ذكر الجلد؛ ولهذا كان هذا مذهب جمهور العلماء، وإليه ذهب أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، رحمهم الله. وذهب الإمام أحمد، رحمه الله، إلى أنه يجب أن يجمع على الزاني المحصَن بين الجلد للآية والرجم للسنة، كما روي، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه لما أتي بشُرَاحة وكانت قد زنت وهي مُحْصَنَةٌ، فجلدها يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، ثم قال جلدتهُا بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد روى الإمام أحمد ومسلم، وأهل السنن الأربعة، عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا البِكْر بالبِكْر، جَلْد مائة وتغريب سنة والثيب بالثيب، جلد مائة والرجم".

وقوله ( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) أي في حكم الله. لا ترجموهما وترأفوا بهما في شرع الله، وليس المنهي عنه الرأفة الطبيعية ألا تكون حاصلة على ترك الحد، وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد فلا يجوز ذلك.

قال مجاهد ( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) قال إقامة الحدود إذا رُفعت إلى السلطان، فتقام ولا تعطل. وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَيْر، وعَطَاء بن أبي رَبَاح. وقد جاء في الحديث "تعافَوُا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حَدٍّ فقد وَجَب". وفي الحديث الآخر "لَحَدٌّ يقام في الأرض، خير لأهلها من أن يُمطَروا أربعين صباحا".

وقيل المراد ( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) فلا تقيموا الحد كما ينبغي، من شدة الضرب الزاجر عن المأثم، وليس المراد الضرب المبرِّح.

قال عامر الشعبي ( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) قال رحمة في شدة الضرب. وقال عطاء ضرب ليس بالمبرِّح. وقال سعيد بن أبي عَرُوُبة، عن حماد بن أبي سليمان يجلد القاذف وعليه ثيابه، والزاني تخلع ثيابه، ثم تلا ( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) فقلت هذا في الحكم؟ قال هذا في الحكم والجلد يعني في إقامة الحد، وفي شدة الضرب.

وعن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أن جارية لابن عمر زنت، فضرب رجليها - قال نافع أراه قال وظهرها - قال قلت ( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) قال يا بني، ورأيتَني أخَذَتْني بها رأفة؟ إن الله لم يأمرني أن أقتلها، ولا أن أجعل جَلدها في رأسها، وقد أوجعت حيث ضربت.

وقوله ( إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) أي فافعلوا ذلك أقيموا الحدود على من زنى، وشددوا عليه الضرب، ولكن ليس مبرِّحا؛ ليرتدع هو ومن يصنع مثله بذلك. وقد جاء في المسند عن بعض الصحابة أنه قال يا رسول الله، إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها، فقال "ولك في ذلك أجر" .

وقوله ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )  هذا فيه تنكيل للزانيين إذا جُلِدا بحضرة الناس، فإن ذلك يكون أبلغ في زجرهما، وأنجع في ردعهما، فإن في ذلك تقريعًا وتوبيخا وفضيحة إذا كان الناس حضورا.

قال الحسن البصري في قوله ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) يعني علانية. ثم قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) الطائفة الرجل فما فوقه. وقال مجاهد الطائفة رجل إلى الألف. وكذا قال عكرمة؛ ولهذا قال أحمد إن الطائفة تصدُق على واحد. وقال عطاء بن أبي رباح اثنان. وبه قال إسحاق بن رَاهَويه. وكذا قال سعيد بن جبير ( طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال يعني رجلين فصاعدا.  وقال الزهري ثلاث نفر فصاعدا. وقال عبد الرزاق حدثني ابن وَهْب، عن الإمام مالك في قوله ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال الطائفة أربعة نفر فصاعدا؛ لأنه لا يكون شهادة في الزنى دون أربعة شهداء فصاعدًا. وبه قال الشافعي. وقال ربيعة خمسة. وقال الحسن البصري عشرة. وقال قتادة أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين، أي نفر من المسلمين؛ ليكون ذلك موعظة وعبرة ونكالا.

وقال ابن أبي حاتم عن نصر بن علقمة في قوله ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال ليس ذلك للفضيحة، إنما ذلك ليدعى اللهُ تعالى لهما بالتوبة والرحمة.
اقرأ المزيد >>

الأربعاء، 11 مايو 2011

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ * أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (الأعراف من 96 إلى 100، تفسير ابن كثير، مجلد 2، صفحة 160)




يقول تعالى مخبرًا عن قلة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل، كقوله تعالى ( فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) (يونس98) أي ما آمنت قرية بتمامها إلا قوم يونس، فإنهم آمنوا، وذلك بعد ما عاينوا العذاب، كما قال تعالى ( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) (الصافات147،148) وقال تعالى ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ) (سبأ34)

وقوله تعالى ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا ) أي آمنت قلوبهم بما جاءتهم به الرسل، وصدقت به واتبعته، واتقوا بفعل الطاعات وترك المحرمات، ( لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ ) أي قطر السماء ونبات الأرض. قال تعالى ( وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) أي ولكن كذبوا رسلهم، فعاقبناهم بالهلاك على ما كسبوا من المآثم والمحارم.

ثم قال تعالى مخوفًا ومحذرًا من مخالفة أوامره، والتجرؤ على زواجره ( أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى ) أي الكافرة ( أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ) أي عذابنا ونكالنا، ( بياتا ) أي ليلا ( وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) أي في حال شغلهم وغفلتهم، ( أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ) أي بأسه ونقمته وقدرته عليهم وأخذه إياهم في حال سهوهم وغفلتهم ( فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ )، ولهذا قال الحسن البصري، رحمه الله "المؤمن يعمل بالطاعات وهو مُشْفِق وَجِل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن".

قال ابن عباس، رضي الله عنهما، في قوله ( أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا ) أو لم نُبَيًن، وكذا قال مجاهد والسدي، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أو لم نبين لهم أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم.

وقال أبو جعفر بن جرير في تفسيرها يقول تعالى أو لم نبيِّن للذين يستخلفون في الأرض من بعد هلاك آخرين قبلهم كانوا أهلها، فساروا سيرتهم، وعملوا أعمالهم، وعتوا على ربهم ( أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ) يقول أن لو نشاء فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم، ( وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ) يقول ونختم على قلوبهم ( فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) موعظة ولا تذكيرًا.

قلت وهكذا قال تعالى ( أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى ) (طه 128) وقال تعالى ( أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ ) (السجدة 26) وقال ( أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ ) (إبراهيم 44،45) وقال تعالى ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا ) (مريم 98) أي هل ترى لهم شخصًا أو تسمع لهم صوتًا؟ وقال تعالى ( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ) (الأنعام 6) وقال تعالى بعد ذكره إهلاك عاد ( فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (الأحقاف25،27) وقال تعالى ( وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ) (سبأ 45) وقال تعالى ( وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ) (الملك 18) وقال تعالى ( فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (الحج 45،46) وقال تعالى ( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) (الأنعام 10) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على حلول نقمه بأعدائه، وحصول نعمه لأوليائه.
اقرأ المزيد >>

الاثنين، 9 مايو 2011

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (الحج 41،40،39، تفسير ابن كثير، مجلد 4، صفحة 541)




قال العَوفي عن ابن عباس نـزلت في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة. وقال غير واحد من السلف هذه أول آية نـزلت في الجهاد، واستدل بهذه الآية بعضهم على أن السورة مدنية، وقاله مجاهد، والضحاك، وقتادة، وغير واحد.

وقال ابن جرير حدثني يحيى بن داود الواسطي حدثنا إسحاق بن يوسف عن سفيان عن الأعمش عن مسلم - هو البَطِين - عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس قال لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر أخرجوا نبيهم. إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكُن. قال ابن عباس فأنـزل الله عز وجل ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) ، قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه فعرفت أنه سيكون قتال.

ورواه الإمام أحمد، عن إسحاق بن يوسف الأزرق، به وزاد قال ابن عباس وهي أول آية نـزلت في القتال. ورواه الترمذي، والنسائي في التفسير من سننيهما، وابن أبي حاتم من حديث إسحاق بن يوسف زاد الترمذي ووَكِيع، كلاهما عن سفيان الثوري، به. وقال الترمذي حديث حسن، وقد رواه غير واحد، عن الثوري، وليس فيه ابن عباس .

وقوله ( وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) أي هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال، ولكن هو يريد من عباده أن يبلوا جهدهم في طاعته، كما قال ( فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ) (محمد 4 -6)، وقال تعالى ( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (التوبة  14،15)، وقال ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (التوبة 16)، وقال ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) (آل عمران 142)، وقال ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (محمد 31). والآيات في هذا كثيرة؛ ولهذا قال ابن عباس في قوله ( وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) وقد فعل.

وإنما شرع الله تعالى الجهاد في الوقت الأليق به، لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عددًا، فلو أمرَ المسلمين، وهم أقل من العشر، بقتال الباقين لشَقَّ عليهم؛ ولهذا لما بايع أهلُ يثرب ليلة العقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا نيفا وثمانين، قالوا يا رسول الله، ألا نميل على أهل الوادي - يعنون أهل مِنَى - ليالي مِنى فنقتلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لم أومر بهذا". فلما بَغَى المشركون، وأخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم، وهموا بقتله، وشردوا أصحابه شَذرَ مَذَر، فذهب منهم طائفة إلى الحبشة، وآخرون إلى المدينة. فلما استقروا بالمدينة، ووافاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، واجتمعوا عليه، وقاموا بنصره وصارت لهم دار إسلام ومَعْقلا يلجؤون إليه شرع الله جهاد الأعداء، فكانت هذه الآية أول ما نـزل في ذلك، فقال تعالى ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقّ ) قال العَوْفي، عن ابن عباس أخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق، يعني محمدًا وأصحابه.

( إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) أي ما كان لهم إلى قومهم إساءة، ولا كان لهم ذنب إلا أنهم عبدوا الله وحده لا شريك له. وهذا استثناء منقطع بالنسبة إلى ما في نفس الأمر، وأما عند المشركين فهو أكبر الذنوب، كما قال تعالى ( يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ ) (الممتحنة 1)، وقال تعالى في قصة أصحاب الأخدود ( وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (البروج 8). ولهذا لما كان المسلمون يرتجزون في بناء الخندق، ويقولون

لا هُــمّ لَــولا أنتَ مــا اهتَدَينا               وَلا تَصَدّقْـَـنــــا وَلا صَلَّينَـــا
فَــأنـزلَــنْ سَـكينَــةً عَلَـينَـا                   وَثَبّـــت الأقْـــدَامَ إنْ لاقَـينَــا
                   إنّ الألَـى قـــد بَغَـــوا عَلَيـنَـا                إذَا أرَادوا فتْــنَـــــةً أبَـيْنَـــا

فيوافقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول معهم آخر كل قافية، فإذا قالوا "إذا أرادوا فتنة أبينا" ، يقول "أبينا" ، يمد بها صوته.

ثم قال تعالى ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ) أي لولا أنه يدفع عن قوم بقوم، ويكشفُ شَرّ أناس عن غيرهم، بما يخلقه ويقدره من الأسباب، لفسدت الأرض، وأهلك القوي الضعيف.

( لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ ) وهي المعابد الصغار للرهبان، قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية، وعكرمة، والضحاك، وغيرهم. وقال قتادة هي معابد الصابئين. وفي رواية عنه صوامع المجوس. وقال مقاتل بن حَيَّان هي البيوت التي على الطرق.

( وَبِيَعٌ )  وهي أوسع منها، وأكثر عابدين فيها. وهي للنصارى أيضًا. قاله أبو العالية، وقتادة، والضحاك، وابن صخر، ومقاتل بن حيان، وخُصَيف، وغيرهم. وحكى ابن جبير عن مجاهد وغيره أنها كنائس اليهود. وحكى السدي، عمن حَدّثه، عن ابن عباس أنها كنائس اليهود، ومجاهد إنما قال هي الكنائس، والله أعلم.

وقوله ( وَصَلَوَاتٌ )  قال العوفي، عن ابن عباس الصلوات الكنائس. وكذا قال عكرمة، والضحاك، وقتادة إنها كنائس اليهود. وهم يسمونها صَلُوتا. وحكى السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس أنها كنائس النصارى. وقال أبو العالية، وغيره الصلوات معابد الصابئين. وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد الصلوات مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطرق. وأما المساجد فهي للمسلمين.

وقوله ( يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ) فقد قيل الضمير في قوله ( يُذْكَرَ فِيهَا ) عائد إلى المساجد؛ لأنها أقرب المذكورات. وقال الضحاك الجميع يذكر فيها اسم الله كثيرا.

وقال ابن جرير الصوابُ لهدمت صوامع الرهبان وبِيعُ النصارى وصلوات اليهود، وهي كنائسهم، ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيرا؛ لأن هذا هو المستعمل المعروف في كلام العرب. وقال بعض العلماء هذا تَرَقٍّ من الأقل إلى الأكثر إلى أن ينتهي إلى المساجد، وهي أكثر عُمَّارا وأكثر عبادا، وهم ذوو القصد الصحيح.

وقوله ( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ) كقوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ) (محمد 7،8).

وقوله ( إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) وَصَف نفسه بالقوة والعزة، فبقوته خلق كل شيء فقدره تقديرا، وبعزته لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب، بل كل شيء ذليل لديه، فقير إليه. ومن كان القويّ العزيز ناصرَه فهو المنصور، وعدوه هو المقهور، قال الله تعالى ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) (الصافات 171-173) وقال الله تعالى ( كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (المجادلة 21).

قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا أبو الربيع الزَّهْرَاني، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب وهشام، عن محمد قال قال عثمان بن عفان فينا نـزلت ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ) ، فأخرجنا من ديارنا بغير حق، إلا أن قلنا "ربنا الله" ، ثم مُكنّا في الأرض، فأقمنا الصلاة، وآتينا الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهينا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور، فهي لي ولأصحابي. وقال أبو العالية هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

وقال الصباح بن سوادة الكندي سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ ) الآية، ثم قال إلا أنها ليست على الوالي وحده، ولكنها على الوالي والمولى عليه، ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذَلكم، وبما للوالي عليكم منه؟ إن لكم على الوالي من ذلكم أن يؤاخذكم بحقوق الله عليكم، وأن يأخذ لبعضكم من بعض، وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع، وإن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة ولا المستكرهة، ولا المخالف سرها علانيتها.

وقال عطية العوفي هذه الآية كقوله ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (النور 55).

وقوله ( وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ ) ، كقوله تعالى ( وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ( القصص 83 ). وقال زيد بن أسلم ( وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ )  وعند الله ثواب ما صنعوا.
اقرأ المزيد >>