الاثنين، 9 مايو 2011

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (الحج 41،40،39، تفسير ابن كثير، مجلد 4، صفحة 541)




قال العَوفي عن ابن عباس نـزلت في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة. وقال غير واحد من السلف هذه أول آية نـزلت في الجهاد، واستدل بهذه الآية بعضهم على أن السورة مدنية، وقاله مجاهد، والضحاك، وقتادة، وغير واحد.

وقال ابن جرير حدثني يحيى بن داود الواسطي حدثنا إسحاق بن يوسف عن سفيان عن الأعمش عن مسلم - هو البَطِين - عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس قال لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر أخرجوا نبيهم. إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكُن. قال ابن عباس فأنـزل الله عز وجل ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) ، قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه فعرفت أنه سيكون قتال.

ورواه الإمام أحمد، عن إسحاق بن يوسف الأزرق، به وزاد قال ابن عباس وهي أول آية نـزلت في القتال. ورواه الترمذي، والنسائي في التفسير من سننيهما، وابن أبي حاتم من حديث إسحاق بن يوسف زاد الترمذي ووَكِيع، كلاهما عن سفيان الثوري، به. وقال الترمذي حديث حسن، وقد رواه غير واحد، عن الثوري، وليس فيه ابن عباس .

وقوله ( وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) أي هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال، ولكن هو يريد من عباده أن يبلوا جهدهم في طاعته، كما قال ( فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ) (محمد 4 -6)، وقال تعالى ( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (التوبة  14،15)، وقال ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (التوبة 16)، وقال ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) (آل عمران 142)، وقال ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (محمد 31). والآيات في هذا كثيرة؛ ولهذا قال ابن عباس في قوله ( وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) وقد فعل.

وإنما شرع الله تعالى الجهاد في الوقت الأليق به، لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عددًا، فلو أمرَ المسلمين، وهم أقل من العشر، بقتال الباقين لشَقَّ عليهم؛ ولهذا لما بايع أهلُ يثرب ليلة العقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا نيفا وثمانين، قالوا يا رسول الله، ألا نميل على أهل الوادي - يعنون أهل مِنَى - ليالي مِنى فنقتلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لم أومر بهذا". فلما بَغَى المشركون، وأخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم، وهموا بقتله، وشردوا أصحابه شَذرَ مَذَر، فذهب منهم طائفة إلى الحبشة، وآخرون إلى المدينة. فلما استقروا بالمدينة، ووافاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، واجتمعوا عليه، وقاموا بنصره وصارت لهم دار إسلام ومَعْقلا يلجؤون إليه شرع الله جهاد الأعداء، فكانت هذه الآية أول ما نـزل في ذلك، فقال تعالى ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقّ ) قال العَوْفي، عن ابن عباس أخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق، يعني محمدًا وأصحابه.

( إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) أي ما كان لهم إلى قومهم إساءة، ولا كان لهم ذنب إلا أنهم عبدوا الله وحده لا شريك له. وهذا استثناء منقطع بالنسبة إلى ما في نفس الأمر، وأما عند المشركين فهو أكبر الذنوب، كما قال تعالى ( يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ ) (الممتحنة 1)، وقال تعالى في قصة أصحاب الأخدود ( وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (البروج 8). ولهذا لما كان المسلمون يرتجزون في بناء الخندق، ويقولون

لا هُــمّ لَــولا أنتَ مــا اهتَدَينا               وَلا تَصَدّقْـَـنــــا وَلا صَلَّينَـــا
فَــأنـزلَــنْ سَـكينَــةً عَلَـينَـا                   وَثَبّـــت الأقْـــدَامَ إنْ لاقَـينَــا
                   إنّ الألَـى قـــد بَغَـــوا عَلَيـنَـا                إذَا أرَادوا فتْــنَـــــةً أبَـيْنَـــا

فيوافقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول معهم آخر كل قافية، فإذا قالوا "إذا أرادوا فتنة أبينا" ، يقول "أبينا" ، يمد بها صوته.

ثم قال تعالى ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ) أي لولا أنه يدفع عن قوم بقوم، ويكشفُ شَرّ أناس عن غيرهم، بما يخلقه ويقدره من الأسباب، لفسدت الأرض، وأهلك القوي الضعيف.

( لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ ) وهي المعابد الصغار للرهبان، قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية، وعكرمة، والضحاك، وغيرهم. وقال قتادة هي معابد الصابئين. وفي رواية عنه صوامع المجوس. وقال مقاتل بن حَيَّان هي البيوت التي على الطرق.

( وَبِيَعٌ )  وهي أوسع منها، وأكثر عابدين فيها. وهي للنصارى أيضًا. قاله أبو العالية، وقتادة، والضحاك، وابن صخر، ومقاتل بن حيان، وخُصَيف، وغيرهم. وحكى ابن جبير عن مجاهد وغيره أنها كنائس اليهود. وحكى السدي، عمن حَدّثه، عن ابن عباس أنها كنائس اليهود، ومجاهد إنما قال هي الكنائس، والله أعلم.

وقوله ( وَصَلَوَاتٌ )  قال العوفي، عن ابن عباس الصلوات الكنائس. وكذا قال عكرمة، والضحاك، وقتادة إنها كنائس اليهود. وهم يسمونها صَلُوتا. وحكى السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس أنها كنائس النصارى. وقال أبو العالية، وغيره الصلوات معابد الصابئين. وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد الصلوات مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطرق. وأما المساجد فهي للمسلمين.

وقوله ( يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ) فقد قيل الضمير في قوله ( يُذْكَرَ فِيهَا ) عائد إلى المساجد؛ لأنها أقرب المذكورات. وقال الضحاك الجميع يذكر فيها اسم الله كثيرا.

وقال ابن جرير الصوابُ لهدمت صوامع الرهبان وبِيعُ النصارى وصلوات اليهود، وهي كنائسهم، ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيرا؛ لأن هذا هو المستعمل المعروف في كلام العرب. وقال بعض العلماء هذا تَرَقٍّ من الأقل إلى الأكثر إلى أن ينتهي إلى المساجد، وهي أكثر عُمَّارا وأكثر عبادا، وهم ذوو القصد الصحيح.

وقوله ( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ) كقوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ) (محمد 7،8).

وقوله ( إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) وَصَف نفسه بالقوة والعزة، فبقوته خلق كل شيء فقدره تقديرا، وبعزته لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب، بل كل شيء ذليل لديه، فقير إليه. ومن كان القويّ العزيز ناصرَه فهو المنصور، وعدوه هو المقهور، قال الله تعالى ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) (الصافات 171-173) وقال الله تعالى ( كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (المجادلة 21).

قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا أبو الربيع الزَّهْرَاني، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب وهشام، عن محمد قال قال عثمان بن عفان فينا نـزلت ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ) ، فأخرجنا من ديارنا بغير حق، إلا أن قلنا "ربنا الله" ، ثم مُكنّا في الأرض، فأقمنا الصلاة، وآتينا الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهينا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور، فهي لي ولأصحابي. وقال أبو العالية هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

وقال الصباح بن سوادة الكندي سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ ) الآية، ثم قال إلا أنها ليست على الوالي وحده، ولكنها على الوالي والمولى عليه، ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذَلكم، وبما للوالي عليكم منه؟ إن لكم على الوالي من ذلكم أن يؤاخذكم بحقوق الله عليكم، وأن يأخذ لبعضكم من بعض، وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع، وإن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة ولا المستكرهة، ولا المخالف سرها علانيتها.

وقال عطية العوفي هذه الآية كقوله ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (النور 55).

وقوله ( وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ ) ، كقوله تعالى ( وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ( القصص 83 ). وقال زيد بن أسلم ( وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ )  وعند الله ثواب ما صنعوا.

هناك تعليق واحد:

  1. أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (الحج 41،40،39، تفسير ابن كثير، مجلد 4، صفحة 541)

    ردحذف