الثلاثاء، 19 أبريل 2011

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (الأنعام 113،112، تفسير ابن كثير، مجلد 1، صفحة 728)




يقول تعالى وكما جعلنا لك -يا محمد - أعداءً يخالفونك، ويعادونك جعلنا لكل نبي من قبلك أيضا أعداء فلا يَهِيدنَّك ذلك، كما قال تعالى ( فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ) (آل عمران 184)، وقال تعالى ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ) (الأنعام 34)، وقال تعالى ( مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ) (فصلت 31). وقال تعالى ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) (الفرقان 43).

وقال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي.

وقوله ( شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ ) بدل من ( عَدُوًّا ) أي لهم أعداء من شياطين الإنس والجن، ومن هؤلاء وهؤلاء، قبحهم الله ولعنهم.

قال عبد الرزاق أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة في قوله تعالى ( شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ ) قال من الجن شياطين، ومن الإنس شياطين، يوحي بعضهم إلى بعض، قال قتادة وبلغني أن أبا ذر كان يوما يصلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "تَعَوَّذ يا أبا ذر من شياطين الإنس والجن". فقال أو إن من الإنس شياطين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعم". وهذا منقطع بين قتادة وأبي ذر وقد روي من وجه آخر عن أبي ذر، رضي الله عنه.
قال ابن جرير حدثنا المثنى، حدثنا أبو صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن أبي عبد الله محمد بن أيوب وغيره من المشيخة، عن ابن عائذ، عن أبي ذر قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس، قال، فقال "يا أبا ذر، هل صليت؟". قال لا يا رسول الله. قال "قم فاركع ركعتين". قال ثم جئت فجلستُ إليه، فقال "يا أبا ذر، هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس؟". قال قلت لا يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين؟ قال "نعم، هم شر من شياطين الجن"، وهذا أيضا فيه انقطاع وروي متصلا.

كما قال الإمام أحمد حدثنا وَكِيع، حدثنا المسعودي، أنبأنى أبو عمر الدمشقي، عن عبيد بن الخشخاش، عن أبي ذر قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فجلست فقال "يا أبا ذر هل صليت؟" . قلت لا. قال "قم فصل". قال فقمت فصليت، ثم جلست فقال "يا أبا ذر، تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن". قال قلت يا رسول الله، وللإنس شياطين؟ قال "نعم". وذكر تمام الحديث بطوله.

وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه في تفسيره، من حديث جعفر بن عون، ويعلى بن عبيد، وعبيد الله بن موسى، ثلاثتهم عن المسعودي، به طريق أخرى عن أبي ذر قال ابن جرير حدثني المثنى، حدثنا الحجاج، حدثنا حماد، عن حميد بن هلال، حدثني رجل من أهل دمشق، عن عوف بن مالك، عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يا أبا ذر، هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن؟". قال قلت يا رسول الله، هل للإنس من شياطين؟ قال "نعم".

طريق أخرى للحديث قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عَوْف الحِمْصي، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا معان بن رفاعة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أبا ذر تعوذتَ من شياطين الجن والإنس؟". قال يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين؟ قال "نعم، شياطينَ الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا". فهذه طرق لهذا الحديث، ومجموعها يفيد قوته وصحته، والله أعلم.

وقد روي ابن جرير حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبو نُعَيم، عن شَرِيك، عن سعيد بن مسروق، عن عِكْرِمة ( شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ ) قال ليس في الإنس شياطين، ولكن شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس، وشياطين الإنس يوحون إلى شياطين الجن.

قال وحدثنا الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا إسرائيل، عن السُّدِّي، عن عِكْرِمة في قوله ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) قال للإنسى شيطان، وللجني شيطان فيلقى شيطان الإنس شيطان الجن، فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.

وقال أسباط، عن السُّدِّي، عن عِكْرِمة في قوله ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ) في تفسير هذه الآية، أما شياطين الإنس، فالشياطين التي تضل الإنس وشياطين الجن الذين يضلون الجن، يلتقيان، فيقول كل واحد منهما لصاحبه إني أضللت صاحبي بكذا وكذا، فأضْلِل أنت صاحبك بكذا وكذا، فيعلم بعضهم بعضا.

ففهم ابن جرير من هذا؛ أن المراد بشياطين الإنس عند عِكْرِمة والسُّدِّي الشياطين من الجن الذين يضلون الناس، لا أن المراد منه شياطين الإنس منهم. ولا شك أن هذا ظاهر من كلام عِكْرِمة، وأما كلام السُّدِّي فليس مثله في هذا المعنى، وهو محتمل، وقد روى ابن أبي حاتم نحو هذا، عن ابن عباس من رواية الضحاك، عنه، قال إن للجن شياطين يضلونهم مثل شياطين الإنس يضلونهم، قال فيلتقي شياطين الإنس وشياطين الجن، فيقول هذا لهذا أضلله بكذا، أضلله بكذا. فهو قوله ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا )

وعلى كل حال فالصحيح ما تقدم من حديث أبي ذر إن للإنس شياطين منهم، وشيطان كل شيء ما رده، ولهذا جاء في صحيح مسلم، عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الكلب الأسود شيطان" ومعناه - والله أعلم - شيطان في الكلاب.

وقال ابن جُرَيْج قال مجاهد في تفسير هذه الآية كفار الجن شياطين، يوحون إلى شياطين الإنس، كفار الإنس، زخرف القول غرورا.

وروى ابن أبي حاتم، عن عِكْرِمة قال قدمت على المختار فأكرمني وأنـزلني حتى كاد يتعاهد مبيتي بالليل، قال فقال لي اخرج إلى الناس فحدث الناس. قال فخرجت، فجاء رجل فقال ما تقول في الوحي؟ فقلت الوحي وحيان، قال الله تعالى ( بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ) (يوسف 3)، وقال الله تعالى ( شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) قال فهموا بي أن يأخذوني، فقلت ما لكم ذاك، إني مفتيكم وضيفكم. فتركوني.

وإنما عَرَضَ عِكْرِمة بالمختار -وهو ابن أبي عبيد - قبحه الله، وكان يزعم أنه يأتيه الوحي، وقد كانت أخته صفية تحت عبد الله بن عمر وكانت من الصالحات، ولما أخبر عبد الله بن عمر أن المختار يزعم أنه يوحى إليه قال صدق، قال الله تعالى ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ) (الأنعام 121)، وقوله تعالى ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) أي يلقي بعضهم إلى بعض القول المزين المزخرف، وهو المزوق الذي يغتر سامعه من الجهلة بأمره.

( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ) أي وذلك كله بقدر الله وقضائه وإرادته ومشيئته أن يكون لكل نَبيّ عدوّ من هؤلاء.

( فَذَرْهُمْ ) أي فدعهم، ( وَمَا يَفْتَرُونَ ) أي يكذبون، أي دع أذاهم وتوكل على الله في عداوتهم، فإن الله كافيك وناصرك عليهم.

وقوله تعالى ( وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ ) أي ولتميل إليه - قاله ابن عباس - ( أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ) أي قلوبهم وعقولهم وأسماعهم.

وقال السُّدِّي قلوب الكافرين، ( وَلِيَرْضَوْهُ ) أي يحبوه ويريدوه. وإنما يستجيب لذلك من لا يؤمن بالآخرة، كما قال تعالى ( فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ) (الصافات 161،163)، وقال تعالى ( إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) (الذاريات 8، 9 )، وقال السُّدِّي، وابن زيد وليعملوا ما هم عاملون.

0 comments:

إرسال تعليق