الثلاثاء، 28 يونيو 2011

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (الأعراف 175-177، تفسير ابن كثير، مجلد 2، صفحة 268)

عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، في قوله تعالى ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَ ) الآية، قال هو رجل من بني إسرائيل، يقال له بَلْعم بن أبَرَ. وقال بعض العلماء هو بلعم بن باعر. وقال آخرون إنه كان يعلم اسم الله الأعظم وكان مجاب الدعوة. وقيل هو أمية بن أبي الصلت، وكأنه إنما أراد أن أمية بن أبي الصلت يشبهه، فإنه كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة، ولكنه لم ينتفع بعلمه، فإنه أدرك زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغته أعلامه وآياته ومعجزاته، وظهرت لكل من له بصيرة، ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه، وصار إلى موالاة المشركين ومناصرتهم وامتداحهم، ورثى أهل بدر من المشركين بمرثاة بليغة - قبحه الله - فإن له أشعارا ربانية وحكما وفصاحة، ولكن لم يشرح الله صدره للإسلام.

وأغرب، بل أبعد، بل أخطأ من قال كان قد أوتي النبوة فانسلخ منها. حكاه ابن جرير عن بعضهم ولا يصح. وقال السدي إن الله لما انقضت الأربعون سنة التي قال الله ( فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) (المائدة 26) بعث يوشع بن نون نبيا، فدعا بني إسرائيل، فأخبرهم أنه نبي، وأن الله [قد] أمره أن يقاتل الجبارين، فبايعوه وصدقوه. وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له "بلعم" وكان عالمًا، يعلم الاسم الأعظم المكتوم فكفر - لعنه الله - وأتى الجبارين وقال لهم لا ترهبوا بني إسرائيل، فإني إذا خرجتم تقاتلونهم ادعوا عليهم دعوة فيهلكون، وكان عندهم فيما شاء من الدنيا غير أنه كان لا يستطيع أن يأتي النساء من عظمهن فكان ينكح أتاناً له، وهو الذي قال الله تعالى ( فَانْسَلَخَ مِنْهَا ).

وقوله ( فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ) أي استحوذ عليه وغلبه على أمره، فمهما أمره امتثل وأطاعه؛ ولهذا قال ( فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ) أي من الهالكين الحائرين البائرين.

وقوله تعالى ( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) يقول تعالى ( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ) أي لرفعناه من التدنس عن قاذورات الدنيا بالآيات التي آتيناه إياها، ( وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ ) أي مال إلى زينة الدنيا وزهرتها، وأقبل على لذاتها ونعيمها، وغرّته كما غرت غيره من غير أولي البصائر والنهى.

وقال أبو الزاهرية في قوله تعالى ( وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ ) قال تراءى له الشيطان على غَلْوة من قنطرة بانياس، فسجدت الحمارة لله، وسجد بلعام للشيطان. وكذا قال غير واحد.

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير، رحمه الله وكان من قصة هذا الرجل ما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر عن أبيه أنه سُئل عن هذه الآية ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا ) فحدث عن سيار أنه كان رجلا يقال له بلعام، وكان قد أوتي النبوة وكان مجاب الدعوة، قال وإن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام - أو قال الشام - قال فرُعب الناس منه رعبًا شديدًا، قال فأتوا بلعام، فقالوا ادع الله على هذا الرجل وجيشه، قال حتى أوَامر ربي - أو حتى أؤامر - قال فوامر في الدعاء عليهم، فقيل له لا تدع عليهم، فإنهم عبادي، وفيهم نبيهم. قال فقال لقومه إني قد آمرت ربي في الدعاء عليهم، وإني قد نهيت. فأهدوا له هدية فقبلها، ثم راجعوه فقالوا ادع عليهم. فقال حتى أوامر. فوامر، فلم يَحُر إليه شيء. فقال قد وامرت فلم يَحُر إلى شيء، فقالوا لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك المرة الأولى. قال فأخذ يدعو عليهم، فإذا دعا عليهم، جرى على لسانه الدعاء على قومه، وإذا أراد أن يدعو أن يفتح لقومه دعا أن يفتح لموسى وجيشه أو نحوًا من ذلك إن شاء الله. قال ما نراك تدعو إلا علينا. قال ما يجري على لساني إلا هكذا، ولو دعوت عليه أيضا ما استجيب لي، ولكن سأدلكم على أمر عسى أن يكون فيه هلاكهم. إن الله يبغض الزنا، وإنهم إن وقعوا بالزنا هلكوا، ورجوت أن يهلكهم الله، فأخرجوا النساء يَسْتقبلنهم فإنهم قوم مسافرون، فعسى أن يزنوا فيهلكوا. قال ففعلوا. قال فأخرجوا النساء يستقبلنهم. قال وكان للملك ابنة فذكر من عظمها ما الله أعلم به، قال فقال أبوها - أو بلعام - لا تمكني نفسك إلا من موسى، قال ووقعوا في الزنا. قال وأتاها رأس سبط من أسباط بني إسرائيل، قال فأرادها على نفسه، فقالت ما أنا بممكنة نفسي إلا من موسى. قال فقال إن منـزلتي كذا وكذا، وإن من حالي كذا وكذا. قال فأرسلت إلى أبيها تستأمره، قال فقال لها فأمكنيه قال ويأتيهما رجل من بني هارون ومعه الرمح فيطعنهما. قال وأيده الله بقوة. فانتظمهما جميعا، ورفعهما على رمحه فرآهما الناس - أو كما حدَّث - قال وسلط الله عليهم الطاعون، فمات منهم سبعون ألفا.

قال أبو المعتمر فحدثني سَيَّار أن بلعامًا ركب حمارة له حتى أتى علولي - أو قال طريقا من علولي - جعل يضربها ولا تُقْدم، وقامت عليه فقالت علام تضربني؟ أما ترى هذا الذي بين يديك؟ فإذا الشيطان بين يديه، قال فنـزل وسجد له، قال الله تعالى ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا ) إلى قوله ( لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) قال فحدثني بهذا سيار، ولا أدري لعله قد دخل فيه شيء من حديث غيره.

قلت هو بلعام ويقال بلعم بن باعوراء، ويقال ابن أبَرَ. ويقال ابن باعور بن شهوم بن قوشتم ابن ماب بن لوط بن هاران، ويقال ابن حران بن آزر. وكان يسكن قرية من قرى البلقاء. قال ابن عساكر وهو الذي كان يعرف اسم الله الأعظم، فانسلخ من دينه، له ذكر في القرآن. ثم أورد من قصته نحوا مما ذكرنا هاهنا، وأورده عن وهب وغيره، والله أعلم.

وقوله تعالى ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ) اختلف المفسرون في معناه فأما على سياق ابن إسحاق عن سالم بن أبي النضر أن بلعاما اندلع لسانه على صدره فتشبيهه بالكلب في لهثه في كلتا حالتيه إن زجر وإن ترك. وقيل معناه فصار مثله في ضلاله واستمراره فيه، وعدم انتفاعه بالدعاء إلى الإيمان وعدم الدعاء كالكلب في لهثه في حالتيه، إن حملت عليه وإن تركته، هو يلهث في الحالين، فكذلك هذا لا ينتفع بالموعظة والدعوة إلى الإيمان ولا عدمه؛ كما قال تعالى ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (البقرة 6).

وقيل معناه أن قلب الكافر والمنافق والضال، ضعيف فارغ من الهدى، فهو كثير الوجيب فعبر عن هذا بهذا، نقل نحوه عن الحسن البصري وغيره.

وقوله تعالى ( فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ( فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ ) أي لعل بني إسرائيل العالمين بحال بلعام، وما جرى له في إضلال الله إياه وإبعاده من رحمته، بسبب أنه استعمل نعمة الله عليه في تعليمه الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب، في غير طاعة ربه، بل دعا به على حزب الرحمن، وشعب الإيمان، أتباع عبده ورسوله في ذلك الزمان، كليم الله موسى بن عمران عليه السلام، ولهذا قال ( لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) أي فيحذروا أن يكونوا مثله؛ فإن الله قد أعطاهم علمًا، وميزهم على من عداهم من الأعراب، وجعل بأيديهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم يعرفونها كما يعرفون أبناءهم، فهم أحق الناس وأولاهم باتباعه ومناصرته ومؤازرته، كما أخبرتهم أنبياؤهم بذلك وأمرتهم به؛ ولهذا من خالف منهم ما في كتابه وكتمه فلم يعلم به العباد، أحل الله به ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة.

وقوله ( سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ) يقول تعالى ساء مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا، أي ساء مثلهم أن شبهوا بالكلاب التي لا همة لها إلا في تحصيل أكلة أو شهوة، فمن خرج عن حَيِّز العلم والهدى وأقبل على شهوة نفسه، واتبع هواه، صار شبيها بالكلب، وبئس المثل مثله؛ ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه".

وقوله ( وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ) أي ما ظلمهم الله، ولكن هم ظلموا أنفسهم، بإعراضهم عن اتباع الهدى، وطاعة المولى، إلى الركون إلى دار البلى، والإقبال على تحصيل اللذات وموافقة الهوى.

0 comments:

إرسال تعليق